للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونجد في "رسالة الغفران" ملاحظة طريفة عن التغيير الذي كان يجريه "المعلمون" في نصوص الشعر، فقد تصور أن "امرئ القيس" قد سئل عن كيفية وجود "الزحاف" في شعره، ثم أجاب على لسانه بقوله: "فيقول امرؤ القيس: أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف:

لك منهن صالح

وأما المعلمون في الإسلام، فغيَّروه على حسب ما يريدون"١.

وورد أن رواة الشعر كانوا ينقحون حتى في شعر الشعراء الإسلاميين، وحجتهم في ذلك أن "الرواة قديمًا تصلح من أشعار القدماء"٢. وقد يقوم بذلك رواة الشاعر نفسه. ورد أن رواة الفرزدق كانوا "يعدلون ما انحرف من شعره"، وأن رواة جرير، فعلوا مثل فعلهم في إصلاح شعر صاحبهم٣.

والتصحيح المذكور، وإن كان جزئيًا، تناول ألفاظا في الأكثر، لكنه في الواقع تحريف وتزييف، وتغيير للنصوص وتبديل لها، حرمنا من الوقوف على قواعد اللهجات العربية عند الجاهليين، بسبب أن المعدلين المصححين، لم يشيروا في كثير من الأحايين إلى المواضع التي غيروها وأجروا التصحيح فيها، ولو فعلوا ذلك، لكان الأمر علينا سهلا هينًا، إذ يكون في وسعنا إرجاع الأمور إلى نصابها والوقوف على النصوص، وإن كان عملهم هذا هو عمل مخالف للذمة وللحق، حتى في هذه الحالة، لأن من قواعد الأمانة وجوب المحافظة على الأصل.

وعندي أن اللغة التي نظم بها الشعر الجاهلي هي لغة الأعراب، وهي أصل اللغة العربية، ولغة أهل البوادي والقرى التي غذتها البادية بالسكان، ولهذا قال "الجاحظ": "ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابيًّا"٤، دلالة على ما للبادية والبداوة من صلة به. ولهذا أيضًا جعل العلماء مقياس الشعر أن يكون عربيًّا بألفاظ نجدية، أي أعرابية خالصة، وهذه العربية كانت تمتد فتشمل لغة أعراب بادية الشأم، بما في ذلك قرى الفرات العربية، التي جاء سكانها العرب


١ رسالة الغفران "٣١٨".
٢ الموشح "١٢٥".
٣ الأغاني "٤/ ٢٥٨".
٤ البيان والتبيين "١/ ٩٤".

<<  <  ج: ص:  >  >>