للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من البادية. ولهذا أيضًا حفلوا بالشعر الصلب الصلد، المنظوم بألفاظ بدوية صميمة تمثل الغلظة والشدة والمتانة، ولم يميلوا إلى شعر شعراء أهل القرى، لأنه شعر سهل سلس، خال من صلابة البوادي ومن غلظة الشعر الأعرابي.

وشعراء الجاهلية بعد، إما شعراء ظهروا بين أهل الوبر، فهم شعراء أعراب يمثل شعرهم نفس البادية، وطبيعة البداوة وعقليتها، وإما شعر أهل مدر، وهم الحضر، المستقرون، وسكان القرى. ولشعر شعرائهم طابع خاص يمثل الطبيعة الحضرية حسب درجاتها ومراتبها واختلاط أهلها بالأعاجم، أو انعزالهم في مستوطنات حضرية ظهرت في البادية، فمن سافر من شعرائهم واختلط بالأعاجم، وشاهد بلاد الشأم والعراق، تأثر بما شاهده، فبان ذلك الأثر في شعره، كما يظهر ذلك في شعر الأعشى، وعدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت.

وطبيعي أن يكون بين الشعراء تنافس وتحاسد وتقديم وتأخير وتفضيل. وفي كتب الأدب أمثلة على منافرات ومناظرات جرت بين شعراء، لبيان رأيهم في شعر شعراء آخرين. وطبيعي أيضًا أن يكون بين شعراء الجاهلية كالذي وقع في كل زمان ومكان، شعراء فحول، وشعراء دونهم في المنزلة والدرجة وفي القدرة في الشعر.

وذكر أن شعراء الجاهلية كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، ويتعارضون في قول الشعر، ويمالطون. والممالطة: أن يقول رجل نصف بيت ليتمه الآخر، ويقال لذلك التمليط، وأن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيمًا وهذا قسيمًا، لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه١، وهو نوع من التفاخر والتنافر والتعجيز وإظهار النفس بالتغلب على المنافس.

وللشعراء بعد منازل في قول الشعر، فمنهم الشاعر الفحل، الذي لا يبارى، ذكر أنهم كانوا لا يسمون الشاعر فحلا، إلا إذا كانت له حكمة. ومنهم الشاعر الخنذيذ. والخنذيذ: الفحل، والشاعر المجيد المفلق، وتطلق اللفظة أيضًا على الخطيب البليغ المفوَّه الْمِصْقَع وعلى العالم بأيام العرب وأشعارهم٢. وقيل:


١ العمدة "١/ ٢٠٢"، "٢/ ٩١"، "مالط فلان فلانًا إذا قال هذا نصف بيت وأتمه الآخر بيتًا، يقال ملط له تمليطًا"، اللسان "٧/ ٤٠٩"، "ملط".
٢ تاج العروس "٨/ ٥٦١"، "الخنذيذ"، المزهر "٢/ ٤٨٩".

<<  <  ج: ص:  >  >>