للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنهم امرؤ القيس والأعشى١، وأن منهم من كان يأتي بالحكم في شعره، مثل: زهير والأفوه الأودي، وعلقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، وعدي بن رعلاء الغساني وغيرهم. والحكمة عندهم، هي خلاصة تجارب الشاعر في هذه الحياة، وما حصل عليه من رأي استوحاه من الواقع أو من أفواه الناس وتجاربهم. وهي بديهة من البديهيات صيغت شعرًا. قد يبدع في صياغتها الشاعر فتسير بين الناس مثلا، كقول "عدي بن رعلاء" الغساني:

ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميتُ الأحياءِ٢

ويظهر من بيت ينسب إلى "زهير"، هو:

ما أرانا نقول إلا مُعارًا ... أو معادًا من لفظنا مكرورا

إن شعراء الجاهلية كانوا قد وصلوا إلى حالة جعلتهم يقلدون من سبقهم في الشعر ويحاكون طرقهم في النظم، فهم يعيدون ويكررون ما قاله الشعراء قبلهم. وهو كلام يؤيده قول علماء الشعر في القصيدة، من أنها كانت تسير على هدي الشعراء السابقين في نظمها من بدء بذكر الديار والبكاء على الأحبة والأطلال إلى غير ذلك من وصف، حتى صارت هذه الجادة، جادة يسير عليها كل شاعر، مما أثر على البراعة والابتكار وجعل الشعر قوالب معروفة معينة، يختار الشاعر قالبًا منها ليعبر به عما يريد أن يقوله نظمًا. ومن هنا ثار "أبو نُوَاس" وأضرابه من الشعراء الإسلاميين على "التقليد" في النظم، لتبدل العقلية وتغير الزمن، وإن كنت أجد في هذه الثورة مبالغة وإفراطًا في الاتهام. فالقصيدة الجاهلية وإن غلب عليها التقليد والمحاكاة، مما ضيق عليها المعاني، إلا أنها لم تكن كلها على نمط واحد على نحو ما يقوله علماء الشعر والأدب، كان الشعراء يراعون الوزن والقافية والروي، وهي أمور ميزت الشعر العربي عن غيره، ولكنهم كانوا يتحللون فيما عدا ذلك، فيأتون بالمعاني التي تدركها عقولهم، وهي معانٍ استمدت من المحيط، وهو محيط واحد، ألهم الشعراء شعرهم، فمن ثم تقارب الإلهام وقربت المعاني، ولو تعددت طبيعته، لما غلب على شعر أولئك الشعراء ما نأخذه عليهم وقد كان تغير وتنوع معاني الشعر في الإسلام، نتيجة حتمية لتغير المحيط.


١ ابن سلام، طبقات "١٤".
٢ الأصمعيات "١٧١".

<<  <  ج: ص:  >  >>