للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو شاعر ينبغ فيهم١. فالشاعر هو صحيفة القبيلة ومحطة إذاعتها، وصوته يحطُّ ويرفع ويخلد لا سيما إذا كان مؤثرًا، فيرويه الناس جيلا بعد جيل.

وكان أثره في الناس أثر السيف في الحروب، بل استخدمه المحاربون أول سلاح في المعارك. فيبدأ الفارس بالرجز، ثم يعمد إلى السيف أو الرمح أو آلات القتال الأخرى، ولأثره هذا، ورد في الحديث عن الرسول قوله: "والذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنبل بما تقولون لهم من الشعر"٢ مخاطبًا بذلك شعراء المسلمين، الذين حاربوا الوثنيين بهذا السلاح الفتاك، سلاح الشعر، وقد كان الوثنيون قد أشهروه أيضًا وحاربوا به المسلمين.

وطالما قام الشعراء بدور السفارة والوساطة في النزاع الذي كان يقع بين الملوك وبين القبائل، أو بين القبائل والقبائل، فلما أَسَرَ الحارثُ بن أبي شمر الغساني "شأس بن عبدة" في تسعين رجلا من بني تميم، وبلغ ذلك أخاه "علقمة بن عبدة"، قصد الحارث، فمدحه بقصيدته:

طحا بك قلب بالحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب

فلما بلغ طلبه بالعفو عن أخيه وعن بقية المأسورين، قال الحارث: نعم وأذنبة، وأطلق له شأسًا أخاه، وجماعة أسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم٣.

ولم يقلّ أثر الشاعر في السلم وفي الحرب عن أثر الفارس، الشاعر يدافع عن قومه بلسانه، يهاجم خصومهم ويهجو سادتهم، ويحث المحاربين على الاستماتة في القتال، ويبعث فيهم الشهامة والنخوة للإقدام على الموت حتى النصر، والفارس يدافع عن قومه بسيفه، وكلاهما ذابٌّ عنهم محارب في النتيجة. بل قد يقدم الشاعر على الفارس، لما يتركه الشعر من أثر دائم في نفوس العرب، يبقى محفوظًا في الذاكرة وفي اللسان، يرويه الخلف عن السلف، بينما يذهب أثر السيف،


١ بلوغ الأرب "٣/ ٨٤"، العمدة، "١/ ٤٩، ٦٥"، المزهر "٣/ ٢٣٦"، العقد الفريد "٣/ ٩٣".
٢ الأغاني "١٥/ ٢٦".
٣ العمدة "١/ ٥٧"، "أسرة الحارث بن أبي شمر الغساني مع سبعين رجلا من بني تميم"، الشعر والشعراء "١/ ١٤٧ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>