للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١٤٩

فيهجوهم بأشد هجاء، أو ينهش أعراضهم، لتقصيرهم في إعطائه المال. ومن هنا نعتوا بالتلون وبالكذب: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ١.

وسبب هذا التلون عامل اقتصادي، فقد كان الشاعر مثل غيره من الناس يتعيش بشعره، يبذله لمن يعطيه، ويحجبه عمن لا يعطيه، وإذا مدح أمل الإثابة، ليعيش عليها، وإن حرم منها، أو وجد أن شاعرًا آخر نال من ممدوحه أكثر مما أعطاه غضب، وقلب مدحه ذمًّا، فيشتمه ويتنقص من شأنه وأن كان قد أغرق بالأمس في مدحه له. وقد يثيره حساد الممدوح، بأن يعطوه أكثر مما أعطاه ممدوحه، فيغريه المال، ولا يجد عندئذ رادعًا أخلاقيًّا يمنعه من التهجم عليه ومن هجائه بأقبح هجاء، فالموضوع موضوع مال، ولو كان للشعراء ثراء وغنى أو سوق رائجة تباع فيها دواوينهم، لما ركب الشاعر ولا شك هذا المركب، ولما تزلف وتقرب، ولكان حاله حال الشعراء الغربيين. يعتمدون على الرأي والفكرة والإبداع والفن، فيشتري الناس شعرهم للاستمتاع به، فما يهمهم لذلك مدح هذا أو ذاك.

ويرى "بروكلمن" أن "كثيرًا ما كان الشاعر يتجه بفنه أيضا إلى مدح بطل أو أمير من قبيلته، ولكنه لم يكن يفكر قديمًا في الجائزة الرنانة، التي نزلت بمكانة شعراء المديح المحترفين في بعض الأحيان -منذ عهد النبي- إلى دَرَك المتسولين بالغناء"٢. وهو يجاري بذلك أهل الأخبار القائلين بأن الشعراء المتقدمين لم يكونوا يمدحون طمعًا في مغنم ومال، وإنما كانوا يمدحون عن رأي، وأن أول من تسول بشعره الأعشى، فحط بعمله هذا من قدر الشعراء، ثم أفرط الحطيئة في ذلك، حتى أهان نفسه، فصيروا المتقدمين من الشعراء ملائكة، ورموا الأعشى بخطيئة التسول، بأن جعلوه رأس المتسولين، وما الأعشى إلا بشر، وما المتقدمين عليه إلا بشر مثله، فإن تسول الأعشى، فمن يثبت أنه كان أول من تسول، وأن خطيئة التسول لم تكن معروفة بين المتقدمين عليه.

والرثاء Elegy من سنن الجاهليين القديمة، يقال رثيت الميت رثيًا ورثاء


١ سورة الشعراء، رقم ٢٦، الآية ٢٢٤ وما بعدها.
٢ بروكلمن "١/ ٥٧".

<<  <  ج: ص:  >  >>