للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجيد وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إن صارت في الصدور عمَّرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حِسَانِ المعاني. ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعر أظهر، ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارًا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وبما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أن يقولوا شعرًا جيدًا، لمكان إغراقهم في أولئك الآباء، ولولا أن أكون عيابًا ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة"١.

وكانت نظرة المبالغة هذه في تقدير الشعر القديم من جملة العوامل التي حملت جهابذة العلماء الخبراء بأساليب الشعر الجاهلي المتقنين له على وضع الشعر على ألسنة الجاهليين وعلى إذاعته ونشره بين الناس. فقد وجدوا أن سوقه رائجة، وأن ما يقدمونه منه لطلابه يقدر تقديرًا عظميًا، وأن ما ينظمونه هم وينشرونه باسمهم لا ينال مثل ذلك التقدير. وقد يحفل به. وأن بعض خلفاء بني أمية كان لهم عشق خاص بشعر الجاهلية، وأنهم كانوا يبحثون عنه، وإذا سمعوا بوجود راوية عرف بحفظه ذلك الشعر، أرسلوا إليه، ليتحفهم بما عنده، ثم يجزلون له العطاء، على حين كانوا لا يعطون على الشعر الذي ينظمونه أو ينظمه الشعراء الأحياء إلى قليلا، وإلا إذا كان مدحًا لهم وتزلفًا إليهم. فدفعهم حرصهم المادي هذا على صنع الشعر وإسناده إلى الشعراء الجاهليين. وهم لو نسبوه إليهم لصار فخرًا لهم، يثمنه لهم من يجيء بعدهم، ولكنهم ما كانوا ليحصلوا عليه شيئًا مغريًا، ففضلوا المادة على الشهرة التي تأتي إليهم بعد الموت.

وقد اتخذ بعض علماء الشعر ورجال الأدب موقفًا وسطًا بين المحدثين، من الشعراء الذي قيل لشعرهم: المولد، وبين الشعراء المتقدمين، فقال "ابن رشيق": "ليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقًا سفسافًا، ولا باردًا غثًّا، كما ليست الجزالة والفصاحة أن يكون حوشيًا خشنًا، ولا أعرابيًّا جافًّا، ولكن حال بين حالين.


١ البيان والتبيين "٤/ ٢٣ وما بعدها". الرافعي "١/ ٤٢٣ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>