للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يمكن أن نتصور أن القصائد الجاهلية الطويلة قد نظمت على نحو ما يرويها أهل الأخبار، دون إجراء أي تغيير أو تحوير عليها. فقد كان الشاعر ينفصل فيتعلم قصيدته ويحفظها راويته ويذيعها بين الناس، ثم يحدث أن تخطر له خواطر أو يسمع نقدًا لبعض أبياتها، أو توجيهًا يبديه له بعض أصدقائه أو يسمع تنبيهًا موجهًا إليه بوجود شيء في قصيدته غفل عنه، فيجري بعض التغيير عليها من تعديل أو زيادة أو نقصان، قد يحفظ ويروى، وقد يهمل ويترك، ولهذا فنحن لا نستطيع الادعاء: أن نظم القصائد كان نظمًا تامًّا، لم يشمله أي تعديل أو تبديل وأن الشاعر لم يكن ينشد قصيدته إلا بعد أن يكون قد اطمأن منها وضبطها ضبطًا تامًّا.

"ومن الشعراء من يحكم القريض ولا يحسن من الرجز شيئًا، ففي الجاهلية منهم: زهير، والنابغة، والأعشى. وأما من يجمعهما فامرؤ القيس وله شيء من الرجز، وطرفة وله كمثل ذلك، ولبيد وقد أكثر"١.

وليس في مستطاع أحد إثبات أن البحور المدونة في علم العروض، هي كل بحور الشاعر الجاهلي وأوزانه، لم يهمل منها وزن، ولم ينس منها بحر، لأن على من يدعي هذه الدعوى، إثبات أن الإسلاميين الذين جاءوا بعد الجاهليين قد أحاطوا علمًا بكل الشعر الجاهلي، وأنهم أحصوه عددًا، فلم يتركوا منه بيتًا ولا قطعة ولا قصيدة. وعلماء الشعر ينفون ذلك ويقولون: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"٢.

ويرى "غرونباوم" أن الشعر الجاهلي قد تطور: "وتتجلى فيه معالم التطور بصورة واضحة: فمن ذوبان اللهجات المتعددة في لغة واحدة، تجمَّع فيها تراث المدارس المختلفة واللهجات المتباينة بصورة متزايدة حتى تحقق حوالي سنة ٦٠٠، إلى زيادة القيود في نظام العروض الفني، فإن ظفر بعض الفئات باستنباط تعابير


١ البيان والتبيين "٤/ ٨٤".
٢ الشعر والشعراء "٧ وما بعدها"، "دار الثقافة".

<<  <  ج: ص:  >  >>