للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشعر وجعل بحورها ستة عشر بحرًا١. وهي قصة باردة من قصص أهل الأخبار، فقد كانوا يضعون مثل هذا القصص حين يسألون عن أمور، لا يكون لهم علم بها، وهل يعقل أخذ الخليل بحوره من دق مطارق الصفارين المزعجة، التي تخرش الأذن، وتبعد الإنسان عن التفكير، وتطير من الدماغ ما قد يكون فيه من علم. فالقصة من مخترعات أهل الأخبار وضعوها في إيجاد سبب لوضع هذا العلم، فربطوا بين دق مطارق الصفارين وبين تقطيع الشعر.

ولا يعقل في نظري أن يكون الخليل قد وضع العروض من غير علم مسبق بأصول نظم الشعر عند أهل الجاهلية. إذ لا يمكن للحس المرهف وحده أن يبتكر العلم ابتكارًا من غير علم مسبق وقواعد سابقة وأصول مقررة معروفة. ولا يعقل أن يكون الخليل قد وضع الأسماء والمصطلحات والتعاريف بنفسه من غير رجوع إلى علم سبق للشعراء الجاهليين أن وضعوه، ومن رجوع إلى قواعد ومصطلحات سبق أن كانت مقررة، ففي أخبار أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كان لهم علم بالشعر، كالذي ذكرته من مثل "حال الجريض دون القريض"، وما روي على لسان الوليد بن المغيرة من قوله في اتهام قريش للرسول من أنه شاعر: "لقد عرفت الشعر ورجزه وهزجه وقريضه فما هو به"٢. وما روي عن إسلام أبي ذر الغفاري ومن قول أخيه أنيس له: "لقيت رجلا على دينك يزعم أن الله أرسله" فلما سأله أبو ذر "فما يقول الناس؟ قال: "يقولون ساحر كاهن شاعر. وكان أنيس أحد الشعراء، فقال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد، أي على طريق الشعر وبحوره"٣. وقد ورد أن أهل يثرب كانوا يعرفون الإقواء والإكفاء في الشعر، وكانوا يعدونهما من عيوب الشعر٤. وقد علمنا أن مصطلح الرجز والهزج والرمل والقصيد، وأمثال ذلك هي من مصطلحات أهل الجاهلية. ثم إن أكثر مصطلحات العروض هي مصطلحات كانت معروفة في الجاهلية، وقد أخذت


١ نزهة الجليس "١/ ١٢٤".
٢ اللسان "٥/ ٣٥٠".
٣ الطبقات "٤/ ٢٢٠"، "صادر، تاج العروس "١/ ٣٧١"، "الكويت"، الفائق "١/ ٥١٨"، تاج العروس "١/ ١٠٣"، "قرأ"، الإصابة "١/ ٨٨"، "رقم ٢٨٩".
٤ الموشح "٥٩".

<<  <  ج: ص:  >  >>