للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دعاة للضلالة، وأخيرًا كانوا يتفاخرون بالعلم. وظهرت هذه المفاخرات العلمية والمناظرات وتعصب كل مدينة لعلمائها، ظهورًا بينًا في كثير من فروع العلم، فالبصريون والكوفيون في المذاهب الدينية وعلم الكلام، والبصريون والكوفيون في الأدب؛ يقول أعشى همدان:

اكسع البصري إن لاقيته ... إنما يكسع من قلّ وذلّ

واجعل الكوفي في الخيلِ ولا ... تجعل البصريَّ إلا في النفل

وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكم يوم الجمل

بين شيخ خاضبٍ عثنونه ... وفتى أبيص وضاح رفل

جاءنا يخطر في سابغة ... فذبحناه ضحى ذبح الحمل

وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأَجَل"١

والكوفة بظاهر الحيرة. المدينة التي كان يقصدها الشعراء والتجار، وفيهم تجار مكة وأشرافها، مثل عبد الله بن جدعان، وأبو سفيان. ومنه انتقل الخط إلى مكة، على حد قول أهل الأخبار، ومنها انتقلت النسطورية إلى العرب النساطرة، وقد اشتهرت برجال برزوا فيها في العلوم الدينية النصرانية وبالعلوم اللسانية في لغة بني إرم، وبكنائسها وبأديرتها التي كانت تعلم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة، وتهيئ الطلاب للتبحر في علوم الدين وفي العلوم الدنيوية المعروفة في ذلك الوقت، ولما أُنشئت الكوفة انتقلت إليها بأبنيتها وأناسها، فقد هدمت منازلها ونقلت حجارتها إلى الكوفة، لتبني بيوتها بها، وانتقل أهلها إلى الكوفة، لأنها أخذت مكانها في الحكم، وصارت مقر الولاة، فشايع أهلها أهل الكوفة في السكن وفي الالتفاف حول قصر الوالي، وانتقل ما كان قد تبقى من بقية علم من الحيرة إلى الكوفة كذلك، وتجسم في هذا الذي نسميه بعلم أهل، أو بمدرسة الكوفة.

وقد كان في أهل الحيرة قوم من النبط، أي من بني إرم أهل العراق، وقوم من الفرس، فتأثر لسان أهلها العرب بلسان النبط ولسان العجم، كما تأثروا بحياة الحضارة والاستقرار، فَلَانَ لسانهم وسهل منطقهم٢؛ وثقل نطقهم بالعربية،


١ فجر الإسلام "١٨١"، البلدان، لابن الفقيه "١٦٣ وما بعدها".
٢ ابن سلام، طبقات "٣١".

<<  <  ج: ص:  >  >>