للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلم يعد ينطق لسانهم نطق الأعراب من حيث الوضوح والإفصاح١. والذي عند علماء العربية أن في لسان الأعراب جفاء وشدة وغلظة، دخلت عليه من خشونة البادية ومن طباعها، فإذا خالط أهل البادية البلديين والأعاجم، لان جفاؤهم وسهل لسانهم، فيبتعد بذلك عن اللسان العربي القُحّ، ولهذا طلب علماء اللغة جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، وأخذوا عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة، وبقيت في سرة البادية أو فاضت حواليها، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف٢.

أما البصرة، فأخذت مكانة "الأبلة" المدينة الشهيرة المعروفة باسم "أبولم" Ubulum في الكتابات الأكادية، وبـ Apologus "أبولوكس" في النصوص الكلاسيكية٣، وهي أقرب إلى جزيرة العرب من الكوفة، ولها اتصال ببلاد الخليج وبالهند، فكانت سفن الهند وسيلان تأوي إليها، وسكن قوم من الهند بها، كما سكن بها قوم من الفرس، خالطوا العرب، ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن شأن الموالي بالبصرة كان أقوى منه بالكوفة، لاتصال البصرة بالهند وببلاد فارس، وبعد الكوفة عنهما، وقد أثر هذا الاتصال في لسان عرب البصرة، مما أدى إلى ظهور اللحن في الكلام، وظهور أثر اللغات أهل الهند في لسان أهل "الأبلة" ثم البصرة، بسبب نزوح جاليات كبيرة من الهند إلى "الأبلة"، وذلك قبل الإسلام.

وأما "بغداد" التي ظهرت بعد المدينتين بأمد، فقد أسسها أبو جعفر المنصور العباسي، فإنها كانت مدينة ملك، ولم تكن مدينة علم، وما فيها من العلم، فمجلوب للخلفاء وأتباعهم، "قال أبو حاتم: أهل بغداد حشو عسكر الخليفة، لم يكن بها من يوثق به في كلام العرب، ولا من ترتضى روايته، فإن أدعى أحد منهم شيئًا رأيته مخلطًا صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة"٤. وللأصمعي كلام يستهزئ به على علم أهل بغداد. قال "خرجت إلى بغداد وما فيها أحد


١ الشعر والشعراء "١/ ١٥٠"، "وكان عدي بن زيد يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه".
٢ الرافعي "١/ ٣٤٣".
٣ كتابي هذا، الجزء الثاني "ص٢٠".
٤ المزهر "٢/ ٤١٤".

<<  <  ج: ص:  >  >>