للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللغة. وقد أشرت في صفحات هذا الكتاب إلى أمثلة عديدة من هذا القبيل، اضطر فيها المجيب على افتعال جواب وصنعه، ليظهر نفسه بمظهر العارف بكل شيء.

ويجب الانتباه إلى أن علماء البصرة أو الكوفة أو غيرهم، مهما سموا في العلم وارتفعوا، فإنهم بشر، لم يرزقوا العصمة، وهم في التأثر والانفعال مثل أي كائن حي، فقد يتأثر عالم من عالم متقدم عليه، فيحاول الغمز في علمه أو الطعن به. قال علي بن العباس: "رآني البحتري ومعي دفتر، فقال: ما هذا؟ فقلت شعر الشنفرى. قال: وإلى أين تمضي؟ قلت أقرأه على أبي العباس أحمد بن يحيى. قال: رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام، فلم أرَ له علمًا بالشعر مرضيًا، ولا نقدًا له، ورأيته ينشد أبياتًا صالحة ويعيدها، إلا أنها لا تستوجب الترديد والإعجاب فيها"١. وروى أحمد بن يحيى ثعلب، خبر مناظرات وقعت بين أبي عمرو الشيباني، والأصمعي، ترينا مبلغ التنافس الذي كان بين العالمين، واستهتار الأصمعي بخصمه، استهتارًا تجاوز الحد٢.

وقد حاول السيوطي إيجاد عذر لغمز العلماء بعضهم في بعض، بأن قال: "فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به من المصرين كثيرًا ما يهجن بعضهم بعضًا، فلا يترك له في ذلك سماء ولا أرضًا؟ قيل: هذا أدل دليل على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم، ألا ترى أنه إذا سبق إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة سبَّ بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها، ولعل أكثر ما يرمى بسقطة في رواية، أو غمزة في حكاية، محمي جانب الصدق فيها، برئ عند الله من تَبِعَتها؛ لكن أخذت عنه إما لاعتناق شبهة عرضت له، أو لمن أخذ عنه، وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاة، مغموض الطرف دون مداه، وقد عرض الشبهة للفريقين، ويعترض على كلا الطريقين" ثم أخذ يعتذر عن ذلك، بأنه وقع في سبيل العلم والحق، ثم قال: "وإذا كانت هذه المناقضات والمنافسات موجودة بين السلف القدي ... جاز مثل ذلك أيضًا في علم العرب"٣.


١ المصون "٤".
٢ المصون "١٩٣ وما بعد".
٣ المزهر "٢/ ٤١٦ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>