أنه اختار شاعرًا غيرهما، فجعله أشعر شعراء الجاهلية، وأشعر الناس، فتحتار في أمر هذا التناقض، كيف وقع، وكيف حدث والحاكم رجل واحد؟ هل وقع هذا حقًّا، أو أنه كان من وضع المتعصبين للشعراء، أرادوا تقديم شاعر لهم على سائر الشعراء، فاحتاجوا إلى حجة وسند وإثبات، لإثبات دعواهم، وتأكيدها، فاختلقوا قولا نسبوه إلى عالم معروف وصنع قوم غيرهم مثل ما صنعوا، فاختلقوا قولا نسبوه إلى هذا العالم أيضًا، فمن ثم تعددت الأقوال وتصادمت، فليس للعماء إذن يد في هذا التناقض أو أي ذنب، وإنما الذنب هو ذنب المختلقين الذي دسوا دسهم على العلماء.
وقد لا يكون للاختلاق يد في ظهور هذا التناقض، وإنما سببه، أن شخصًا يسأل عن شاعر، فيخطر بباله خاطر عن شعره، جعله يستعذبه أو يستعذب جزءًا منه، يراه أنه أحسن ما قيل من نحوه، فيرجحه على الجميع، ويحكم من هذه الناحية على أنه أشعر الناس، ثم يمضي وقت، ينسى فيه ما قال، فيسأله أشخاص: من أشعر الناس: فيتخطر خاطرًا، أو يحمله المجلس الذي كان يدور فيه الحديث إذ ذاك على خاطر، يحمله على الحكم بتفوق شاعر آخر، وهكذا ومن هنا كان سبب هذا التناقض والاختلاف في الرأي.
وقد كان من السهل وقوع مثل هذا التناقض، لأن العلم كان بالمشافهة، ولم يكن عن تدوين وقراءة كتب، وكان بالذاكرة والتذكر، وكان حكمهم بنصف البيت وبالبيت وبالقطعة وبالقصيدة، أو بجملة قصائد، لا بمراجعة شعر كل شاعر، وبمقابلته بشعر الشعراء الآخرين، واستنباط ما في مجموع شعر كل شاعر من مزايا، للمقابلة بينهما، ثم الحكم للمتفوق الأجود، فذلك أمر لم يكن من الممكن حدوثه، لعدم وجود التدوين عندهم، ثم إنه لم يكن معروفًا عندهم، فلما وقع التدوين، وأخذ علماء الشعر في التنقير في كل جهة بحثًا عن الشعر وما قيل فيه، ظهر ذلك التناقض وبان، ودون كل ما أمكن تدوينه، بعد أن ضاع من الشعر ومن الآراء التي قيلت عنه ما ضاع، وكانت الخلاصة هذا الواصل إلينا.
وقد أشار أهل الأخبار إلى ما كان للعصبية من أثرها في تفضيل الشعراء بعضهم على بعض: عصبية قبلية، وعصبية محلية، وعصبية منافسة وتراكض على الزعامة. فالقبائل تقدم شعراءها على شعراء غيرها وتجعل في أيديهم ألوية الشعر، وقيادة الشعراء في معارك القصيد، وأهل العصبية إلى عدنان، يقدمون شعر ربيعة وأولهم