الأدم، غاليًا، ينوء بثمنه الشاعر أو الرَّاوِيَة، ويأخذ مكانًا، ولا سيما إذا كان الشاعر من الأعراب، وأنا لا أستبعد احتمال وجود مثل هذه المدونات عند الحضر، مثل أهل الحيرة، لانتشار الكتابة بينهم ولشيوع التدوين عندهم، ولكن الأحداث وعوامل الطبيعة أتلفت تلك المدونات، فلم تسقط لهذا السبب في أيدي رواة الشعر والأخبار.
ولا تزال الرِّوَاية الشفوية مستعملة حتى اليوم، مع وجود التدوين وكثرة الورق، فلأغلب شعراء العراق اليوم -مثلا- رواة يدونون شعر الشاعر ويحفظونه في الوقت نفسه حفظًا، فإذا حضروا مجلسًا، وجاء ذكر الشعر، أو شعر شاعر يروون شعره تلوه حفظا على السامعين، وفي النجف رواة شعر، دونوا شعر شعرائها المحدثين مثل الحبّوبي وغيره في دواوين، وحفظوه في الوقت نفسه حفظًا في قلوبهم، ومنهم من حفظ شعره من غير تدوين له، وقد يزيد ما يحفظونه على ما هو مدون بسبب أن الشاعر قد يحضر مناسبة تهزة فيقول فيها شيئًا فيحفظه رواته والمعجبون به، وقد يفوت تسجيله على رواته الذين يلازمون الشاعر، فلا يقفون عل خبره، ويدفع الإعجاب بالشاعر المعجبين به على التقاط شعره وحفظه في أدمغتهم حتى كأنهم أشرطة تسجيل حساسة، لا يفوتها من التسجيل أي شيء.
وبسبب عدم لجوء الجاهليين إلى تدوين شعرهم في الغالب، لأسباب عديدة، منها: ندرة الورق، وغلاؤه، واعتمادهم في حفظه على الذاكرة، هلك أكثره بموت حافظه، وأصيب قسم منه بتحريف وتغيير، وزيد بعض منه، ونقص منه بعض آخر، وصنع شعر على المتقدمين لأغراض مختلفة، ونسب الشعر إلى جملة شعراء، ورويت أبيات بروايات مختلفة، وما كان ذلك ليحدث، لو أنهم كانوا قد عمدوا إلى تدوينه وتثبيته. "قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير. ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه، قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة. وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة، ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، وغير أن الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما