للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقع من ذلك شيء كثير مذكور في كتب الشعر والأدب، وهو يدل على أن الشعر لم يكن مدونًا في بادئ أمره، وإنما كان يروى حفظًا، ولو كان قد أخذ من كتاب لما جاز عقلا وقوع مثل هذا الخطأ والاشتباه.

ويحدث أن شاعرين يصنعان قصيدتين من بحر واحد وروي واحد، فيختلط أمرهما على الرواة، يدخلون أبياتًا من هذه في تلك، فتختلط نسبة الأبيات١.

وقد وضع على لسان عدي بن زيد العبادي شعر كثير. وقد علل ابن سلام سبب ذلك بقوله: "كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فَلَان لسانُه، وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد، واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر. وله أربع قصائد غرر وروائع مبرزات، وله بعده شعر حسن"٢. وقد تكون للعصبية يد في هذا الوضع. فعدي من أهل الحيرة، وقد تعصب أهل الكوفة للحيرة، إذ انتقل أكثر أهل الحيرة إلى الكوفة فأقاموا بها، وتعصبوا لتأريخهم القديم، فلعل هذه العصبية هي التي حملتهم على وضع الشعر على لسانه لرفع شأن نصارى الحيرة في الشعر.

ومع اشتهار الحيرة بالكتابة، واشتهار عدي بها خاصة، إذ كان من كتاب كسرى بالعربية، فإننا لم نعثر على خبر يفيد أن الرواة أخذوا شعر عدي عن ورقة جاهلية، أو ديوان جاهلي مدون. ولو كان لعدي ديوان مدون، لما وقع في شعره ما قاله ابن سلام.

وقد يسأل سائل: كيف يعقل أن يضع شاعر مثل حمّاد الراوية شعرًا فخمًا جزلا يستعز به ثم ينسبه إلى الجاهليين ولو نسبه إلى نفسه لكان اليوم فخرًا له ولعد من أكابر الشعراء فأقول: كان طلب آل مروان للشعر الجاهلي شديدًا. وهذا ما صيَّر رواية الشعر من الحرف النافعة التي كانت تدر أرباحا طيبة لأصحابها تزيد على الأرباح التي يحصل عليها الشاعر من شعره. وقد كسب حماد من حرفته هذه مالا حسنًا. غير أن الإلحاح في طلب هذا الشعر والإغراء الذي أبداه عشاقه للرواة، أفسد الرواة، وحملهم على وضع الشعر وحمله على القدماء للحصول على الأجر، ولنيل الحظوة، ولإظهار العلم وسعة الحفظ. وقد زاد في هذا الوضع


١ الحيوان "٦/ ١٣٢"، "حاشية رقم٣".
٢ ابن سلام، طبقات "٣١".

<<  <  ج: ص:  >  >>