المنافسة الشديدة التي كانت بين الرواة، فخلقت هذه الظروف وأمثالها شعرًا جديدًا منحولا حسب على ملاك شعر الجاهليين.
ونجد في ثنايا كتب الأدب وفي كتب الشعر أشعارًا كثيرة منحولة وضعت قديمًا على ألسنة الجاهليين، وضعت لأن الناس كانوا يومئذ في شوق عظيم وتعطش إلى سماع أشعار من قبلهم، كانوا يقبلون عليها أكثر من إقبالهم على شعر معاصريهم من الشعراء، ويجزلون له العطاء أكثر من إجزالهم لسماع شعر شاعر معاصر، إلا ما قد يكون منه في المدح والذم. وكان ربح الراوية القدر المتبحر بالشعر الجاهلي المتجر به العارف بنظم الشعر لا يقل عن ربح الشاعر العظيم إن لم يزد عليه في أكثر الأحيان. والعادة أن مكافأة الشاعر المعاصر على شعر، لا تكون إلا في أمور لها صلة بالمجتمع، مثل المدح والهجاء والهزل والاستخفاف والتضحيك، أما في غير ذلك فتقديره إلى العلماء وأصحاب الذوق، وهم لا يثيبون على هذه الأمور إلا قليلا، ولهذا يكون تقدير الشاعر الذي لا يمدح ولا يهجو ولا يتقرب لأحد بالأمور المذكورة، بعد موته في الغالب، فلا ينال مثل هذا الشاعر من العيش ما يكفيه. ثم إن الراوية مطلوب في كل وقت، مرغوب فيه، وسوقه رائجة. فإذا غنت مغنية بيتًا قديمًا، أراد السامعون معرفة صاحبه، وأكثر الناس خبرة بأصحاب الشعر القديم هم الرواة، وهم قلة، لما يجب أن يكون في الراوية من خصائص تجعله من نوادر الرجال. فالذكاء الخارق، والعلم بالشعر وبأساليبه، والتمكن من العربية بمفرداتها وبلهجاتها وبالقبائل وبأيام العرب وبأمثال ذلك، هي من اللوازم التي لا تتهيأ لكل إنسان، ولذلك لم يكن أمثال هؤلاء الرواة إلا أفرادًا نص العلماء على أسمائهم نصًّا. وقد نالوا في أيامهم شهرة لم تكن أقل منزلة من شهرة أفذاذ الشعراء، وقد تدرب عليهم فحول الشعراء، وتخرج من مدرستهم أعاظم شعراء العرب في الإسلام. فرواية الشعر إذن وحفظه وصنعه، لم تكن حرفة سهلة يسيرة، ولا منزلة صغيرة بالنسبة إلى منزلة الشاعر، إنها لا تقل في السمو عن أرفع منزلة وصل إليها الشعراء في ذلك العهد. ولم يقل دخل الراوية من عطايا الملوك وهداياهم بأقل من دخل الشاعر، إن لم يزد عليه في بعض الأحيان، ولهذا فليس بغريب إذا ما رأينا الشاعر ينسب شعره للجاهليين، ويرويه على أنه من شعر شاعر جاهلي قديم، ولا ينسبه لنفسه.
وآفة ما تقدم عدم التدوين والتقييد، ولو كان الشعر مدونًا في صحف وكتب،