للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وصل بأفواه متعددة، ومن الصدور، ولهذا تعددت الروايات واختلفت القراءات وهذا شيء لا بد أن يحدث، وهو أمر غير مستغرب، فحفظ الصدور لا يكون كحفظ السطور. ولو كان الشعر قد دون في ذلك العهد، وسجل في صحف ودواوين لما اختلف الرواة الإسلاميون في تدوينه يوم شرعوا في جمع ذلك الشعر وتدوينه في دواوين. فنجد الرواة قد يختلقون في عدد أبيات القصيدة وفي ترتيبها وفي نص البيت، فترى روايات متعددة تمس بيتًا واحدًا، لا تمس شكل الكلمة، بحيث نرجع ذلك إلى خطأ النُّساخ، وإنما تمس اللفظة نفسها، أو جملة ألفاظ شطر البيت أو البيت نفسه، وكتب الشعر والأدب مليئة بأمثال هذه الأمور التي هي من حاصل الاعتماد على الرواية الشفوية في حفظ الشعر.

ومتى أنشد شاعر شعره، وأذاع روايته بين الناس، حفظ وطار بين طلاب الشعر وعشاقه، لا سيما إذا كان مما يتصل بالناس. هذا عميرة بن جعل يهجو قومه، ثم يندم على ما قال، فيقول:

ندمت على شتم العشيرة بعدما ... مضت واستتبت للرواة مذاهبه

فأصبحت لا أسطيع دفعا لما مضى ... كما لا يرد الدَّر في الضرع حالبه١

وفي هذا المعنى جاء شعر المسيب بن علس.

فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع

ترد المياه فما تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع٢

فالشعر تحمله الرياح وتنشره بين الناس، فيحفظ، ويرويه الرواة.

وكما كان لهم فضل على الشعر في تدوينه وتخليده، فكذلك كان لهم يد في إفساده وفي غشه وتزييفه. فقد كان منهم من يخلط في الشعر، ومنهم من كان يضيف عليه أو ينقص منه، أو يصنع الشعر فينحله الشعراء، ولما قيل للحطيئة، وهو من المخضرمين أوصِ قال: "ويل للشعر من الرواة السوء"٣. وفي قول


١ الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "١/ ٥٤٤"، المفضلية رقم٦٣.
٢ المفَضَّلِيَّات "٦٢"، العصر الجاهلي "١٤٢".
٣ الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "١/ ٢٣٩"، "دار الثقافة، بيروت".

<<  <  ج: ص:  >  >>