فأنت ترى أن هذه القصة تكاد تكون القصة السابقة نفسها، لولا ما أدخل عليها من ذكر اسم المهدي بدل الرشيد ومن تزويقات، وهي أقرب إلى الواقع من حيث الزمن من الأولى، فقد أدرك حماد أيام خلافة المهدي. أما من حيث الصحة أو الكذب، فربما كانت من وضع أعداء حماد عليه، أو من وضع المتعصبين للمفضل الضبي المرجحين علمه على علم حماد.
وفي القصة الثانية موطن شك أيضًا، فالمعروف أن خلافة المهدي كانت سنة "١٥٨هـ"، وأنه اتخذ داره بعيساباذ بعد تولِّيه الخلافة، وقد كان وفاة حماد سنة "١٥٦هـ"، أي قبل توليه إمارة المؤمنين. فيظهر أنها من الموضوعات التي وضعت على حماد، ربما وضعها أصحاب المفضل لتعظيم أمر صاحبهم، وللحط من شأن حماد. وقد كان المفضل يكره حمادًا الراوية، ويطعن في علمه، بسبب تنافس الرجلين على الزعامة في العلم.
وأكثر هذه التهم التي وجهت إلى علم حماد وإلى جهله بالعربية، وبالعروض، إنما هي تهم وجهها إليه أهل البصرة، عصبية لمدينتهم ورجالهم، وما اتهام ابن سلام ويونس بن حبيب لحماد، بالتهم المذكورة، سوى ترديد لهذه العصبية الضيقة، وللخصومة على الزعامة التي كانت بين المدينتين. ويونس بن حبيب الذي يحمل على حماد، ويتهمه باللحن، قد أتهم نفسه بتهمة اللحن، اتهمه خصومه أهل الكوفة بالطبع، ونجد مثل هذه الاتهامات من تجهيل العلماء بعضهم بعضًا بقواعد العربية وبالوقوع في اللحن، في صفحات الكتب الباحثة في المناظرات وفي التراجم، وفي كتب الأخبار والأدب، حتى يكاد يكون من الصعب علينا العثور على عالم، نقول إنه سلم من سهم من سهام النقد والتجريح.
ويظهر أن المنافسة على الزعامة في العلم بالشعر الجاهلي، جعلت المفضل الضبي ينال من حماد، ويظهر أثر هذه المنافسة فيما ينسب إلى الضبي من أقوال ذكر أنه قالها في حماد مثل قوله:"قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا" فقيل له: "وكيف ذلك أيخطئ في رواية أم لحن؟ قال: "ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم