الواردة عنهم العكس، نرى فيه الفطنة والخبث إلى آخر أيامه. ثم إنه كان أقدم وأشهر وأعرف وأحفظ من خلف الأحمر، وهو في معرفة الشعر وتمييزه أمرس من صاحبه خلف، فلا يعقل فوات ما نحله خلف القدماء على حماد. وقد كان الرواة أنفسهم يتعجبون من مقدرة حماد على التمييز بين الصحيح والفاسد من الشعر، وعلى إحاطته بأساليب الجاهليين في نظم القريض، وعلى إتقانه تلك الأساليب، حتى صار من الصعب على عشَّاق الشعر التمييز بين ما كان يصنعه حماد على ألسنة الشعراء الجاهليين وبين ما كان من نظمهم حقًّا. ولهذه الأسباب يصعب التصديق بهذا الخبر، ورأى أنه من وضع أهل البصرة، وضعوه على حماد، كرهًا له وللكوفيين. ورواته هم من البصريين.
وما خبر توبة خلف الأحمر، وخروجه إلى أهل الكوفة، ليعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس، والتي أدخلها أهل الكوفة في دواوينهم، وأَبَو إصلاحها، أو حذفها، سوى قصة فيها الطعن والسخرية بعلم أهل الكوفة وبفهمهم للشعر، وفيه مدح وتفخيم لعلم خلف بالشعر، وإن كان لا يخلو من تجريح لخلف نفسه، وفيه مدح لعلم أهل البصرة ولصدقهم في رواية الشعر والأخبار. استهزاء إذن وتعريض بأهل الكوفة، ليس فوقه استهزاء، وضعه رجل فيه دعابة وتعصب وتحامل على الكوفيين.
وقد اختص خلف بالفروع التي اختص بها حماد بالكوفة، وبذلك جعل البصرة تنافس الكوفة فيها. اختص بالشعر القديم، وباللغة، وبشيء آخر مهم جدًّا هو وضع الشعر وحمله على ألسنة القدماء، فصار في هذا الباب بطل البصرة وممثلها، كما كان حماد بطل الكوفة وزعيم الوضَّاعين. وقد امتاز خلف على الأصمعي العالم البصري ومعاصره بقدرته على نظم الشعر، إذ كان هو نفسه شاعرًا متمكنًا في الشعر، متقنًا لفنونه، كان من حذقه واقتداره في الشعر أن يشبه شعره بشعر القدماء فلا يفرق بينه وبين القديم. أما الأصمعي، فلم يبلغ مبلغه فيه، وإن كان من علماء اللغة والأدب والنحو ومن حفظة الشعر ورواته.
وهناك روايات تنسب الصدق إلى خلف، ثم لا تكتفي بذلك حتى تجعله أعرف الناس وأعلمهم بالشعر. وروايات تذكر أنه كان أول من أحدث السماع بالبصرة، وأنه تعلم ذلك من حماد١.