للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نرى الكتب، تذكر أنه ارتجلها ارتجالا، بمعنى أنها كانت من وحي الموقف والساعة، ولم تكن مهيأة من قبل. لأن الارتجال في الكلام، التكلم عن غير تدبر ولا تهيئة سابقة، وقيل من غير رويَّة ولا فكر١. ويظهر أنهم قصدوا بالارتجال إلقاء الكلام من غير نظر إلى صحيفة، وذلك أوقع في النفس عندهم من الإلقاء عن شيء مكتوب، على الرغم من كون صاحبه قد أعده من قبل وقد حفظه، كما يفعل شعراء هذا اليوم من إنشادهم شعرهم المنظوم سابقًا من غير نظر في صحيفة، ليظهر الشاعر وكأنه يرتجله ارتجالا.

ولا يعقل أن يكون الشعر كله من نتاج المصادفة والمفاجأة، وأنه كان يحفظ على نحو ما قيل وأنشد، فلم يجر عليه قلم، ولم ينله تهذيب ولا تشذيب، ولا سيما بالنسبة للقصائد. فقد كان الشاعر ينظم شعره مقدمًا في الغالب، ثم ينشده رواته وجماعته، لئلا ينساه، ثم يرى رأيهم فيه، وقد يزيد هو عليه شيئًا، وقد ينقص منه شيئًا، ومن هنا نجد رواية أكثر القصائد لا تثبت على ترتيب واحد، وليست لها وحدة مستقلة ولا ترتيب متكامل، إلا في أحوال نادرة، ومن ثم اختلفت الرواية عن الشاعر، فقد يكون أحد الرواة، قد افترق عن الشاعر وابتعد عنه وهو يحفظ شعره على نحو ما سمعه منه، على حين يكون الشاعر قد أضاف على شعره شيئًا جديدًا، حفظه عنه غيره من الرواة، فتسبب ذلك في ظهور الاختلاف في القصيدة الواحدة، وتكون الرواية القديمة أقصر من الرواية الحديثة في العادة، لعدم دخول الزيادة التي ترد متأخرة بالطبع على الشعر٢. روي عن ابن مقبل قوله: "إني لأرسل البيوت عوجًا، فتأتي الرواة بها قد أقامتها"٣. فللرواة إن صح هذا الخير، يد في إصلاح الشعر، وفي تغييره، وفي إقامة ما قد يكون فيه من اعوجاج.

ولا بد للشاعر من إعداد الشعر"القصيد" وتهيئته والنظر فيه قبل إنشاده، كما في شعر المدح والهجاء، لما يجب أن يتفنن فيه الشاعر، وهو على علم أن من سيقصده لمدحه، قد قصده غيره للغاية نفسها، وقد يصادف إنشاده لشعره


١ تاجُ العَروسِِ "٧/ ٣٣٧"، "رجل".
٢ بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "١/ ٦١".
٣ مجالس ثعلب "٤٨١".

<<  <  ج: ص:  >  >>