غير الشعراء الارتجاز، وليس في استطاعتهم نظم الشعر، لذلك كان الرجز أكثر كمية من الشعر، ولكن كثرته هذه وسهولته، قصرتا في عمره، وربما صارتا من العوامل التي جعلت الناس لا تقدم على حفظه.
ولما كان الشعر تعبيرًا عن عواطف جياشة وعن حس مرهف، وعن نفس حساسة تريد التعبير عن نفسها بأي أسلوب كان، فإن في استطاعتنا القول إنه لازم البشرية منذ عرفت نفسها، وأخذت تعبر عن إحساسها بأية طريقة كانت: بطريقة بدائية أو بطريقة متطورة. فبدأ الشعر كما بدأ الإنسان نفسه، بداية بسيطة ساذجة بدائية، ثم تطور بتطور مدارك الإنسان، وتعددت طرقه وبحوره، بتطور العقل والمدارك، وبارتفاع مستوى الحياة، فكان لذة يلتذذ بها المسافر، وهو يقطع الطرق الصعبة، والصحارى الموحشة، يعبر عنها بغناء ذي نغم، وبألفاظ تناسب ذلك الغناء، كما كان يعبر عنها ففي التشوق والتحبب إلى الآلهة والقوى الطبيعية التي كان يرى أنها تؤثر في حياته، وفي مناسبات التقرب إلى الملوك والحكام، لينال منهم لقمة عيش، وشيئًا من مال، كما عبر عنها في الأفراح وفي الأتراح، وفي الفخر والمدح والذم، وهو الهجاء، وفي الظروف التي تؤثر عليه، فتجعله يفرح من رؤيتها ويرتاح، مثل المناظر الطبيعية الجميلة، والأصوات الجميلة وجمال الإنسان.
والشعر الجاهلي الصحيح، هو حاصل تطور طويل مستمر، لا يمكن تحديد أوله، إذ بدأ الشعر مذ بدأ الإنسان يشعر بالفرح وبالسرور بالتعبير عن عواطفه. وقد فقد القديم منه بسب عدم تدوينه في حينه، وبسب صعوبة بقائه في الذاكرة إلى أمد طويل، ولم يصل منه إلينا إلا هذا القليل الذي قيل في عهد لا يرتقي كثيرًا عن الإسلام، وهذا القليل الباقي، هو الصفحات القليلة الأخيرة من كتاب لا نستطيع أبدًا تقدير حجمه، هو كتاب الشعر الجاهلي، الذي ختم بتغلب الإسلام على الشرك، وبموت الجاهلية وظهور دين الله.
أما قول القائلين إنه لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا أبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد في عهد مهلهل، أو هاشم، أو عبد المطلب، فرأي لا يقوم على دليل، وليس له سناد تأريخي، وإنما هو مجرد رواية رواها رواة الشعر في الإسلام. إذ لا يعقل أن تكون قريحة الجاهليين الذين عاشوا قبل