للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإسلام بقرنين أو بقرن ونصف قرن، قريحة محبوسة محصورة، حددت بحدود لم تتعدها ولم تتخطها، فإذا هاجت وماجت بالأحاسيس وبالشعور المرهف، صاغت حسها هذا ببيت أو ببيتين أو ثلاثة، ثم توقفت عند هذا الحد لا تتجاوزه أبدًا. وإذا كان الشعر طبع في الإنسان كما يقولون ونقول، وهو نوع من أنواع التعبير عن الخاطر، وجب تصور أن صياغته في قوالب من أبيات شعر، إنما تكون صياغة منسجمة مع طول وعرض الخاطر صغيرًا، ضئيلًا، صيغ ببيت أو بأبيات، وإذا كان طويلًا مبعوثًا عن حس ملتهب جياش، صيغ بأبيات تزيد عن تلك يتناسب عددها مع حجم ذلك الخاطر. فمن هنا لا نستطيع أن نقول إن شعر قدماء الجاهليين كان أبياتًا لا تزيد على ثلاثة، وإنهم لم يكونوا يملكون القدرة على نظم ما يزيد على ذلك، إلى أن جاء "عدي بن ربيعة" التغلبي، الملقب بالمهلهل، فوسع الشعر وزاد الأبيات وقصد القصائد. نقول مثل هذا وإن قال به علماء هم أعلم منا بفنون الشعر وبدروبه، قول لا يمكن الأخذ به لما ذكرته. أفلم يكن للذين سبقوا المهلهل من العرب لسان مثل لسانه وحس مثل حسه؟ إذا كان لهم مثل ما كان له، فيفترض أن يكون تعبيرهم عن عواطفهم، مثل تعبيره عنها سواء بسواء، قد يكون قليلًا وقد يكون كثيرًا من غير تغيير أو تحديد ولا تفنين، لأن التحديد يتوقف على طول وقصر الحس الذي يستولي على الشاعر فيصوغه شعرًا.

أما إذا قصدوا من قولهم المذكور معنى أن المهلل كان أول شاعر وصل شعره إلينا أبياتًا زاد عددها على عدد ما وصل إلينا من شعر أي شاعر تقدم عليه، وأنه أول من رويت له كلمة بلغت ثلاثين بيتًا١، فذلك أمر آخر لا صلة له بدعواهم أن الشعر كان قبل المهلهل رجزًا وقطعًا، فقصده مهلهل، ثم امرؤ القيس من بعده. وظل الرجز على قصره بمقدار ما تمتح الدلاء، أو يتنفس المنشد في الحداء حتى كان الأغلب العجلي، وهم على عهد النبي، فطوله شيئًا يسيرًا وجعله كالقصيد٢.

وهذا معناه عندي أن شعر "المهلهل"، هو أول شعر طويل وصل إلى علماء الأخبار من شعر قدماء الشعراء الجاهليين، وأما شعر من سبقه، فقد فقد وضاع معظمه،


١ الرافعي "٣/ ١٤"، المزهر "٢/ ٤٧٧".
٢ الرافعي "٣/ ١٥".

<<  <  ج: ص:  >  >>