للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الهازئ به، فهو أناني، لا يشرك أحد معه في أكله، وإناءه واحد، لايأكل به أحد غيره، ولذلك سمن وثخن من التخمة، أما هو، وهو الوهاب فكان يقتر على نفسه، ويجوع، ليأكل غيره أكله، فأصابه من ثم هذا الهزال.

فهو إنسان، يقسم ما عنده وما يأتيه على نفسه وعلى غيره، وقد يقدم غيره على نفسه. ومن هنا "كان يقال: من قال إن حاتما أسمح العرب، فقد ظلم عروة بن الورد"١.

ويذكرون أنه أصاب في بعض غارته امرأة من كنانة فاتخذها لنفسه، فأولدها، فلقيه قومها، وقالوا: فادنا بصاحبتنا، فإنا نكره أن تكون سبية عندك قال: على شريطة، قالوا: وما هي؟ قال: على أن نخيرها بعد الفداء، فإن اختارت أهلها أقامت فيهم، وإن اختارتني خرجت بها. وكان يرى أنها لا تختار عليه، فأجابوه إلى ذلك، وفادوا بها، فلما خيروها اختارت قومها، وتركته فنظم في ذلك شعرا٢.

وذكر أن "معاوية" تذكر "عروة بن الورد"، فقال: "لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج منهم". وأن "عبد الملك بن مروان" تذكره يوما، فقال: "ما يسرني أن أحدا من العرب ممن ولدني لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله:

وإني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد٣

وهو بيت يمثل خلق هذا الشاعر ومروءته التي أبت عليه ألا يشرك غيره من الضعفاء والمحتاجين فيما يحصل عليه ويناله من المتمكنين بالإكراه والقوة. إناؤه مليء لبنا، حتى يفيض ويكثر، فإن طرقه إنسان وجد اللبن أمامه، يشرب منه وهو شريكه فيه، شريكه في كل شيء عنده قل أو كثر، وهو يفتخر بذلك ويتبجح بإشراكه غيره إنائه على من حرص على ماله، وبخل بما عنده، مثل "قيس بن زهير"، الذي استأثر بما عنده، فلم يعط لمحتاج شيئا منه. فصار


١ الروض الأنف "٢/ ١٨٠".
٢ الشعر والشعراء "٢/ ٥٦٧".
٣ ديوان عروة "٢"، الأغاني "٣/ ٧٢ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>