للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على الأقل، فالشاعر مثل أي إنسان آخر، لا بد وأن يشعر في يوم ما بعجزه وبحاجته إلى مخاطبة أربابه وأن يتوسل إليها لتنفعه أو لتمن عليه بالصحة والعافية وبالمال، يتوسل إليها شعرا، فيمدحها ويشيد بذكرها، ويسترضيها، اقتداء بفعله مع الملوك وسادات القبائل، حيث يكيل المدح لهم شعرا لأنهم أحسنوا إليه.

وقد ورد اسم "الله" في الشعر وفي النثر الجاهليين، على نحو ما ذكرت في الجزء السادس من هذا الكتاب. لقد ذكرت هناك أن غالبية المستشرقين شكت في صحة ورود اسم الله في هذا الشعر، ورأت أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك أنهم حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم الله وهكذا١.

وذلك لاعتقادهم أن الوثنيين لم يكونوا يؤمنون بالله، فلا يعقل ورود اسمه في شعرهم. وهو رأي لا أقرهم عليه، لأن الجاهليين كانوا يؤمنون بالله، ولم يكونوا ينكرون وجوده أبدا، بدليل ما نجده في القرآن من تأكيد بأنهم كانوا يؤمنون به، وأنهم كانوا إذا سألهم سائل من خلق الكون ليقولون الله. وقد ذكرت في حينه كل الآيات الواردة في القرآن الكريم عن هذا الموضوع٢. وبينت أن أهل مكة وغيرهم من العرب الشماليين، كانوا يؤمنون بإله واحد هو الله، ولم يكن بينهم وبين الإسلام خلاف فيه، وخلافهم معه هو في تقربهم إلى الأصنام والأوثان، لتشفع لهم، بزعمهم، إلى الله زلفى. مع أنها أجسام جامدة وأحجار لا حياة فيها، فمن هنا حمل الإسلام عليها، وأعتبرها شركا بالله، لأنهم بتقربهم إليها يكونون قد أشركوها مع الله في ألوهيته، وهذا هو الكفر والضلال في نظر الإسلام، ولذلك أمر بالابتعاد عنها وبنبذها وبنبذ كل ما يتصل بها من عبادة، كما أمر بطمس الصور، ومحوها لأنها من دلائل هذه الوثنية ومن معالمها.

وقريش نفسها لم تنكر على الرسول تعبده لله، ولم تمنعه من الصلاة في بيت الله، ومن ذكره وحمده له، لأنها لا تختلف معه في عبادته، وإنما اختلفت معه، فيما هو دون الله من أصنام وأوثان، وذلك حين عابها وسفَّه أحلامهم بتقربهم إليها وهي جامدة مخلوقة ومصنوعة، عندئذ هاجت وماجت واشتكت إلى أعمام رسول


١ "ص ١٠٢ وما بعدها".
٢ "ص ١٠٣ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>