كثير"١. والشائع بينهم أيضا أن الشعر قد أصيب بسبب ما تقدم بنكسة، فذبل وضعف وذهبت عنه قوة وسورة وجزالة وشدة الشعر الجاهلي، وأعرض بعض الشعراء مثل "لبيد" عن الشعر، إذ رأوا أن في كلام الله ما يغنيهم عنه، وقل بذلك عدد الشعراء ولا سيما الشعراء الفحول بالنسبة إلى أيام الجاهلية، وغلبت الليونة على الشعر الجديد، فصار شعر "حسان" الذي قاله في الإسلام ضعيفا لينا بالنسبة إلى شعره الجزل المتين الذي قاله في جاهليته.
وجوابي على هذه الدعاوى: صحيح أن الشعر الجاهلي قد نقص حجمه وضاع قسم كبير منه، ولكن ضياعة ذلك لم يكن بسبب الإسلام، وإنما بسبب الأحداث والتطورات التي طرأت على جزيرة العرب، بسبب دخولها في الإسلام، كحروب الردة مثلا والفتوح، وانفتاح أرض الله الواسعة أمام المسلمين، وفرار الكثير من أهل جزيرة العرب نحو الخارج بحثا عن أرض أخصب وماء أوفر، وجو أطيب وثراء وعيشة راضية. أما حروب الردة، فقد أكلت من المسلمين ومن المرتدين جماعة عرفت برواية الشعر وبحفظها له، وبنظم الشعر أيضا، فقل بهلاكهم عدد حفاظ الشعر، كما قل في الوقت نفسه عدد حفاظ القرآن. وأما الفتوح، فقد قتل فيها قوم من الشعراء ومن حفاظ الشعر، فهلك بموتهم شطر من الشعر الجاهلي، وتقلص عدد العلماء به. كما ألهت الناس عن الشعر، بما فتحت لهم من آفاق الأرض وبما درت عليهم من أموال وأشغال قلصت من فراغهم الذي كان يكوّن معظم حياتهم في البوادي، فجعلتهم في الأرضين الجديدة يصرفون معظم وقتهم في استغلال الأرضين التي صارت من نصيبهم، وفي إحياء الموات، وفي تربية المواشي، والاشتغال بالزراعة، وهي أشغال تستبد بوقت الإنسان، وتصرف ذهنه إليها لمعالجتها، فلا يشعر في مثل هذه الحالة بما كان يشعر به يوم كان في بواديه فارغ البال، يقضي وقته بالتعبير عن نفسه بشعر يقتل به فراغه، ويسلي به نفسه بالتغني به لأصدقائه، ثم هو قد يتيعش منه، بما يناله من قبيلته من مال واحترام، وبما قد يحصل عليه من مدحه للملوك وللسادات من عطايا وهبات ثمنا للمدح. ومحيط فيه شغل وعمل، وفيه تعب جسماني وعقلي لا يساعد على نمو الشعر فيه، ومن هنا كان إقبال أهل الحضر مثل أهل مكة وأهل يثرب