وأهل الطائف وأهل اليمامة على الشعر، ونبوغهم فيه أقل من إقبال أهل البوادي عليه، بسبب انشغال أهل القرى والحضر عامة بتدبير أمور الحياة، وبالحرف وباستغلال الأرض والمال والإتجار، وبسبب تكتلهم وتجمعهم وتلاصق بيوتهم بعضها ببعض، مما يجعلهم يطلعون على أحوال جيرانهم وعلى عوراتهم، ويقفون على أسرار حياتهم في الشعب وفي القرية، فلا يكون للهجاء عندهم لهذا الأثر الذي يكون له عند الأعراب، ولا يكون للمدح عندهم ما يكون له من أثر عند أهل البادية. ومن هنا نجد دولة الشعر وقد قل نفوذها في العالم العربي في هذا اليوم عما كان عليه نفوذها قبل ثلاثين سنة أو أكثر، بسبب التطور الحضاري الذي أخذ يغزو العالم العربي، وهو تطور يقلص من فراغ الإنسان ويستبد به، جاء له بهموم وبمشاكل نفسية وبأمراض الحضارة التي تريد المزيد من التمتع بمتع الحياة من جنسية ومادية، ليتمتع بها الإنسان في هذه الحياة التي لن يعود إليها مرة ثانية، فصار يفكر في الحصول على المادة جهد طاقته، ولو عن طريق إماتة أعصابه، ليستمتع بأقصى حد ممكن باللذة الحسية، التي صار يراها أنها سبب هذا الوجود، وذلك قبل فواتها منه، بموت يخترمه منها، فزاد الإقبال على المتعة، وعلي رأسها الاستمتاع باللذة الجنسية، وبلذة الشرب والتدخين، وقل الإقبال على الاستمتاع باللذات النفسية، وفي جملتها الشعر، فلا تجد اليوم له في أوروبة ما كان له من مكانة قبل عشرات السنين، وغلب النثر عليه، وقل عدد من كان يحفظ شعر الشعراء الماضين والمعاصرين، وعلي هذا النحو صار حالنا اليوم، فتناقص عدد حفاظ الشعر في النجف مثلا تناقصا كبيرامن حيث العدد والكم، والنجف في الشعر أو الأدب كوفة العراق بالأمس أيام الأمويين والعباسيين. فالإعراض الذي لاقاه الشعر في صدر الإسلام، لم يكن بسبب كره الإسلام له، وإنما بسبب التطور الذي طرأ على حياتهم، فغيرها من جميع الوجوه، نتيجة لخروجهم من جزيرتهم، ولاختلاطهم بأمم أعجمية ذات نظم أخرى، ونظرات متباينة مع نظرات العرب إلى مفهوم الحياة.
أما إعراض "لبيد" عن قول الشعر بعد اعتناقه الإسلام، فليس مرده اعتقاده بكره الإسلام للشعر، وإنما هو في رأيي بسبب تقدمه في السن، والإنسان متى تقدم في العمر خفتت مواهبه وبرد إحساسه، ووهنت عواطفه التي تكون متقدمة في أيام المراهقة والشباب، أو قد يكون هذا العامل وعامل آخر، هو سلطان