للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبرد حسه، وضعف شعره في المعاني التي قالها في الجاهلية، وفي الدروب التي سلكها من دروب الشعر الجاهلي، ولكنه تألق في معان أخرى تنسجم مع عمره ومع المثل التي اعتنقها، فمن ثم صار شعره يختلف عن شعره في الجاهلية. ولم يقع ذلك لحسان وحده وإنما وقع هذا الحادث لكل شاعر هجم عليه العمر، واستبدت به الأعوام.

ومما وقع للشعر في الإسلام، أن الزعامة انتقلت فيه من البوادي إلى الحواضر، فبعد أن كان شعر الأعراب، بجزالته وبخشونته وبصلادته، هو المقدم عند علماء الشعر والمحبين له، وبعد أن كانت القبائل هي التي تنجب الفحول، صارت الحواضر هي التي تنبت الفحول، لتبدل الزمن، ووقوع تغير في الذوق، ولتغلب الحضارة على البداوة، ولاهتمام الناس بالمعاني، أكثر من اهتمامهم بالشكل وبمظهر القوالب فقل شعر الشعراء الأعراب الفصحاء، ثم انحسر الشعر من موطنه، كما انحسر أكثر سكان البوادي عن بواديهم، ليلحقوا بخير الحضر، وصار الشعر العربي الفصيح من حصة الحضر في هذه الأيام. كما حلت الكوفة ثم "دمشق" ثم بغداد فبقية الحواضر محل "الحيرة" وقصور الغساسنة ومضارب سادات القبائل في استقبال الشعراء وفي الإنعام عليهم بالهدايا والألطاف. ولتغير الذوق بتغير المجتمع، تغير الشعر كذلك، ولا سيما في أيام بني العباس.

وفي شعر المخضرمين شعر قيل في الرسول وفي حوادث الإسلام، وفي الرد على المشركين وتسفيه مقالتهم وفي دينهم ونيلهم من دين الله. قاله الشعراء بعد دخولهم في الإسلام. وعلي رأس هؤلاء من ذكرت من شعراء يثرب، يتقدمهم "حسان بن ثابت" شاعر الرسول، الذي كان يستدعيه الرسول في المناسبات ليجيب على شعر الشعراء الوافدين عليه، كالذي كان من أمره مع شاعر وفد "تميم" الزبرقان بن بدر.

وكان لرد شعراء يثرب على شعراء قريش ومن لف لفهم، أثر كبير في نفوس المشركين. يروى أن النبي قال لحسان بن ثابت: "اهجهم، يعني قريشا، فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس"١. وقد كان هجاؤه شديدا عليهم، له وقع في نفوسهم أشد


١ العمدة "١/ ١٢"، الأغاني "٤/ ٧"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "١٠٧".

<<  <  ج: ص:  >  >>