للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من وقع شعر بقية الشعراء عليهم. فقد كان لسانه حادا قاطعا، لا سيما إذا ما تناول ناحية الهجاء وما يتعلق منه بالوقائع والأيام والنزاع القديم الذي كان بين أهل مكة ويثرب. فيجيد في ذلك كل الإجادة، ويتفوق بهذه الناحية على شعراء قريش.

وكان حسان وكعب يعارضان شعراء قريش بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب. وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر، فكانوا في ذلك الزمان أشد شيء عليهم قول حسان وكعب، وأهون شيء عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة١.

وأما شعر شعراء مكة إلى عام الفتح، فكان في إيذاء الرسول والإسلام، وفي هجاء المسلمين، وتمجيد قريش ورثاء من قتل من المشركين وتعظيم أمر الجاهلية وسنة الآباء وما ألفوه عن آبائهم من أمور، وقد حفظت كتب السير والمغازي والتواريخ شيئا من شعرهم، من النوع الذي لم يتضمن قذعا شديدا بالإسلام، ولا شتما عنيفا وهجاء غليظا بالرسول وبالمسلمين. أما النوع الثاني الذي أفحش فيه أولئك الشعراء، وجاءوا فيه بشتائم وسباب، فقد أنف أصحاب السير والمغازي والتأريخ من روايته، فتركوه، ولو جمع الباقي من شعرهم مع ما رد عليه، لكُوّن منه ديوان ثمين في المعارضة التي كانت بين المشركين والمسلمين في مبدأ ظهور الإسلام، ولكان سجلا قيما لتأريخ ذلك الصراع، ولكيفية تغلب الإسلام على الشرك. فهو وثائق تأريخية من الدرجة الأولى، على أن يغربل ويفحص فحصاعلميا للتيقن من درجة صفائه ونقائه بالطبع.

ونوع آخر من أنواع الشعر كان عند المخضرمين، هو شعر القتال. القتال الذي وقع بين المسلمين والمشركين واليهود، إلى أن انتصر الإسلام. فاختفى صوت الشرك وصوت يهود، وبقي صوت الإسلام وحده، لا يعارضه أحد، ولا يجابهه صوت. فقد كان من عادة العرب، أنهم إذا تقاتلوا أنشدوا شعرا يفتخرون فيه بأنفسهم وبقبيلتهم وبشجاعتهم، ولا سيما حين يخرج فارس لمبارزة فارس آخر، وقد يقف الشعراء في صفوف المحاربين يحرضونهم على القتال والاستبسال.


١ الأغاني "١٥/ ٢٩".

<<  <  ج: ص:  >  >>