للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نستعين بها في تدوين تاريخ الحيرة وتاريخ الساسانيين مع العرب. ويعود سبب ذلك إلى رجوع الرواة إلى موارد مدونة، أو إلى شهود عيان أدركوا أنفسهم الحوادث، وكلها من الحوادث القريبة من الإسلام والتي وقع بعضها في أيام الرسول. أما حوادث آل نصر، أو أخبار الفرس مع العرب البعيدة؛ فلا نجد فيها هذا الصفاء والنقاء، بل نجد فيها قترة وغبرة، لنقلها بالسماع والمشافهة وتقادم العهد على السماع. وهكذا صار تاريخ الحيرة المروي في التواريخ غيومًا تتخلّلها فجوات متبعثرة تنبعث منها أشعة الشمس.

نعم جاء أن أهل الحيرة كانوا يعنون بتدوين أخبارهم وأنساب ملوكهم وأعمار من ملك منهم، وكانوا يضعون ذلك في بيع الحيرة١. وورد أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوح، وهي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض؛ فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار٢. وذكر ابن سلام الجُمَحِي أنه "كان عند النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته؛ فصار ذلك إلى بني مروان، أو ما صار منه"٣.

ولكنني على الرغم من ورود هذ الأخبار لا أستطيع أن أقف منها الآن موقفًا إيجابيًّا؛ إذ لم أسمع أن أحدًا من رواة الشعر ذكر أنه رجع إلى تلك الطّنوج والدواوين فأخذ منهما، أو أن بني مروان عرضوها على أحد. ولو كانت تلك الدواوين موجودة، لم يسكت عنها رواة الشعر الجاهلي وطلابه الذين كانوا يبحثون عنه في كل مكان. ثم إن الأخباريين يذكرون أن "الوليد بن يزيد بن عبد الملك"، كان يرسل إلى "حمّاد" رسلًا ليأتوا إليه بما يريد الوقوف عليه من الشعر الجاهلي، وأنه "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك وردّ الديوان إلى حمّاد وجناد"٤، وأنه أحضر٥ إلى الشام، واستنشده أشعار "بَلِيّ" وأشعارًا أخرى، ولو كان لدى "بني


١ الطبري "٢/ ٣٧".
٢ تاج العروس "٢/ ٧٠"، لسان العرب "٣/ ١٤٢"، ابن جني، الخصائص "١/ ٣٩٢ وما بعدها".
٣ طبقات فحول الشعراء "ص١٠، المزهر "٢/ ٤٧٤".
٤ الفهرست "ص١٤٠".
٥ الأغاني "٦/ ٩٤".

<<  <  ج: ص:  >  >>