في التأريخ، ومن الحكمة وجوب التريث والانتظار؛ فلعل الأيام تتحفنا بتواريخ فارسية، ترينا أن للفرس رأيًا أصيلًا في التأريخ، وأن لهم طريقة المؤرخين في تدوين تأريخ العالم وتأريخ بلادهم وفي تدوين سير الملوك والأشخاص، وأنهم كانوا قد عينوا مراسلين يلازمون جيوشهم لتدوين أخبار الحروب، كما فعل الروم، ولكن بعقلية مستقلة لم تتأثر بطريقة اليونان واللاتين.
ويكاد يكون أكثر ما دوّن عن "الغساسنة" في المؤلفات العربية الإسلامية مأخوذًا من الروايات الواردة عن ملوك الحيرة وعرب الحيرة، أنداد الغساسنة، ولذلك لم تكن في جانبهم، وتكاد تلك الأخبار ترجع في الغالب إلى شخص واحد، تحصص بأخبار الحيرة وملوك الفرس، هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو الذي روى هذه الأخبار اعتمادًا على بحوثه الخاصة، وعلى البحوث والدارسات التي قام بها والده من قبله، ويجب أن نجعل لهذه الملاحظات الاعتبار الأول في تدوين تاريخ الغساسنة. وقد وردت أخبارهم في الطبري مع أخبار ملوك الحيرة والفرس لهذا السبب. وأما في سائر الأصول التاريخية الأخرى؛ فهي مقتضبة، وقد اكتفى بعض المؤرخين بإيراد جريدة بأسماء الملوك، وهو عمل ينبئك بقلة بضاعة القوم في تاريخ عرب الشام. وعلى كل حال؛ فإننا نجد في كتب الأدب وفي دوايين الشعر عونًا لنا في تدوين، تاريخ غسان، قد يسد بعض الفراغ في تاريخ هذه الإمارة، وإن كان ذلك كله لا يكفي، بل لا بد من الاستعانة بأصول أعجمية من يونانية وسريانية، ففيها مواد عن نواحٍ مجهولة من هذا التاريخ، كما أنها تصحح شيئًا؛ مما ورد في الموارد العربية من أغلاط١.
ولقد تأثرت روايات "ابن الكلبي" بطابع التعصب لأهل الحيرة على الغساسنة؛ لاعتماده على روايات أهل الحيرة وعلى أهل الكوفة في سرد تاريخ الغساسنة، وقد كان ملوك الحيرة أندادًا لملوك الغساسنة، ولهذا تتعارض رواياته وروايات من استقى من هذا المورد مع روايات علماء اللغة والأدب والشعر التي وردت استطردًا عن أهل الحيرة أو الغساسنة، وذلك في أثناء شرحهم لفظة أو بيت شعر أو قصيدة أو ديونًا أو حياة شاعر كانت له علاقة بالحيرة أو الغساسنة، أو عن
١ أمراء غسان لنولدكه، ترجمة الدكتور قسطنطين زريق والدكتور بندلي جوزي، "بيروت سنة ١٩٣٣" "ص١-٢"