بدأ الإسلام في أمة أمية، وجماعات بدوية، فكان المسلمون الأولون غير حريصين على النظافة، بحكم العرف والعادة والبيئة، يأكلون الأرز والإدام واللحم والزبد بأيديهم، ثم يلعقون أصابعهم، ويمسحونها بما قرب منهم، ثم يمسحون أفواههم.
وجاء دين النظافة فأمر بالوضوء من كل حدث أصغر، والغسل من كل حدث أكبر، وبإزالة الروائح التي يتأذى منها المجتمع، جاء بالاستنجاء، وغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وبالمضمضة عند كل وضوء، وزيادة في الحث على النظافة أمر بالوضوء من أكل أو شرب ما مست النار، ومن المعروف أن الكثير من الطعام مطهي بواسطة النار، فقال صلى الله عليه وسلم "توضئوا مما مست النار" وفهم بعض الصحابة من هذا الأمر الوجوب، وفهم بعضهم منه الندب وفهم آخرون أن المراد من الوضوء فيه الوضوء اللغوي وهو النظافة فعمل به على أساس غسل اليدين والفم. وساعد كلا ما فهم عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، فأبو طلحة يراه يأكل ثور أقط، أي قطعة من اللبن المطبوخ على النار، فيتوضأ منه، وابن عباس يراه يأكل كتف الشاة مطهية على النار، ثم يصلي دون أن يتوضأ، وعمرو بن أمية الضمري يراه يقطع من كتف الشاة بالسكين ويأكل، ثم يدعي إلى الصلاة وهو على هذه الحال، فيطرح السكين من يده، ويصلي بالناس، ولا يتوضأ، وميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تروي أنه أكل عندها كتف شاة مطهية على النار، وصلى ولم يتوضأ، وأبو رافع يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما تحويه بطن الشاة، فيأكله، ثم يصلي، ولا يتوضأ، وابن عباس يراه يخرج للصلاة، فيقابل بهدية من خبز ولحم، فيأكل منها، ثم يصلي، ولا يمس ماء.
ويسأله رجل: أأتوضأ يا رسول الله من أكل لحوم الغنم؟ فيقول: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ، فيسأله: أأتوضأ يا رسول الله من أكل لحوم الإبل؟ فيقول: نعم فتوضأ من لحوم الإبل، ويثور الجدل بين الصحابة في هذا الحكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناظر ابن عباس أبا هريرة، فيقول ابن عباس: لو وجب الوضوء مما مست النار لم يجز الوضوء بالماء الحار، وإنا نستحم بالماء المسخن ونتوضأ به، وندهن بالدهن المطبوخ، فيقول أبو هريرة يا ابن أخي. إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب لذلك مثلا. ويقول ابن مسعود: لأن أتوضأ من الكلمة المنتنة أحب إلي من أن أتوضأ من اللقمة الطيبة.
وينتهي الخلاف والنقاش والجدل بانتهاء الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعده على أنه لا يجب الوضوء مما مسته النار، عملا بحديث ابن عباس رضي الله عنه "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار".