كنا قعودا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا جمعا كثيرا من الصحابة على رأسنا أبو بكر وعمر، وكنا نحيط برسول الله صلى الله عليه وسلم - حبا فيه وحرصا على ما ينطق به من تعاليم الإسلام وآدابه- إحاطة الهالة بالقمر، فقام صلى الله عليه وسلم من بيننا، وبقينا على وضعنا في انتظاره، ظانين أنه خرج لقضاء حاجة سريعة وسيعود، فقد كان شأنه صلى الله عليه وسلم إذا قام منصرفا أشعرنا بانصرافه فيصحبه بعضنا إلى حيث يريد - إن أذن - وينصرف البعض الآخر إلى عمله.
وقوى هذا الظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يتجه إلى البيوت، ولكن نحو البساتين القريبة من مجلسنا.
وطال انتظارنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح الزمن يمضي بطيئا ثقيلا، ونظر بعضنا إلى بعض نظرات القلق والاضطراب لتأخره صلى الله عليه وسلم على غير عادته، وساورتنا الهواجس والأوهام، اليهود بالمدينة وحولها يتربصون به صلى الله عليه وسلم، والمنافقون يحقدون عليه ويدبرون له المكايد، والكفار يمكرون به ليقتلوه، وقد خرج صلى الله عليه وسلم وحده، وإلى مكان موحش، فماذا نحن فاعلون؟ واستبد بنا الخوف عليه صلى الله عليه وسلم، ونفد منا الصبر واستولى علينا الفزع، يقول أبو هريرة: وكنت أكثرهم فزعا وأولهم تحركا، وهب الجميع للبحث عنه صلى الله عليه وسلم بين المزارع والحدائق التي اتجه نحوها، وكان يقام على كل منها حائط مرتفع لا يسهل ارتقاؤه، ليمنع السائبة من الفساد في الحرث.
ودار أبو هريرة حول بستان لبني النجار، غلب على ظنه أنه الذي اتجه إليه صلى الله عليه وسلم، لكنه لعجلته واضطرابه لم يعثر على بابه، أو لم يعثر على باب مفتوح ورأى ثقبا في أسفل الحائط تخترقه قناة تنقل الماء إلى البستان من بئر خارجه.
فانكمش أبو هريرة، وضم أعضاءه، كما ينكمش وينضم الثعلب عند ولوجه جحرا ضيقا، ودخل البستان من ثقب الحائط، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم داخله، فلما أحس به صلى الله عليه وسلم قال: من؟ أبو هريرة؟ فقال: نعم أنا أبو هريرة يا رسول الله. قال له: ما شأنك؟ وما الذي جاء بك من هذه الجهة وبهذه الحالة؟ قال: كنت بيننا يا رسول الله فقمت فجأة، فانتظرناك، فأبطأت علينا، فخشينا عليك من أعداء الإسلام، ففزع الجميع، وكنت أول من فزع، فأتيت هذا البستان، فلم أعثر على بابه، فتحايلت على الدخول من ثقب الجدول الضيق كما يتحايل الثعلب، والناس ورائي حول هذا البستان يبحثون عنك.
وأحس صلى الله عليه وسلم أن الإيمان قد ملأ قلوب هذه الجماعة من أصحابه، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أصبح أحب إليهم من أنفسهم التي بين جنوبهم، وليس لمثل هؤلاء جزاء إلا الجنة. ومكافأتهم العاجلة على هذا الصنيع الحميد أن يبشروا بها، لتطمئن قلوبهم التي فزعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {جزاء وفاقا}[النبأ: ٢٦].
فقال: يا أبا هريرة اذهب إلى القوم فهدئ من روعهم، وأعد الطمأنينة إلى نفوسهم، وخذ نعلي