أما على تفسير الشرع له بأنه خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، فإنه بهذا المعنى لا يأتي إلا بخير، وهو خير كله.
وهذا هو المقصود بالحديث، فإن كان الحياء عن محرم فهو واجب، وإن كان عن مكروه فهو مندوب، وإن كان عن مباح فهو على وفق الشرع مباح، وهو في جميع هذه الحالات لا يأتي إلا بخير، وكله خير.
وعلى هذا التفسير يمكن أن يقال: إن انكسار النفس وانقباضها عن السؤال في العلم والتزود منه، ليس حياء شرعيا، لأنه لا يبعث على اجتناب القبيح، بل هو - والحالة هذه- باعث على اجتناب الحسن، مؤد إلى التقصير في حق صاحبه.
ولكنه حياء لغوي، تغير وانكسار خوف ارتكاب ما يعاب به، ولهذا صح قول ابن عمر: "فاستحييت" حين أحجم عن الجواب والكلام في العلم، وصح قول أبيه معاتبا له على هذا الانقباض النفسي، لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا (أي حمر النعم).
وصح قول عائشة: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين".
وصح قول مجاهد: "لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر".
فكل هذه النصوص من قبيل إطلاق الحياء بمعناه اللغوي، وليس بالمعنى الشرعي.
وحين نتساءل - بعد هذا التفصيل- عن وجه إنكار عمران على بشير مع أن ما حكاه بشير صحيح من الناحية اللغوية نقول:
نستبعد أن يكون عمران قد حمل ما في الحكمة من الحياء على الحياء الشرعي، وأن يكون بشير يعارض الحديث بما جاء فيها.
وإنما الذي أنكره عمران وضع بشير قول الحكماء في مقابلة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصد عمران بذلك صون السنة أن يذكر معها غيرها، حتى ولو كان هذا الغير موافقا لها، لأنها أجل من أن يستشهد على صحتها، فما بالنا والمقابل يوهم معارضتها، وأسلوب سياقه يوهم الميل إليه لا إليها.
إنه باب لو فتح لاستهان الناس بها، ولتطرق الشك فيها عند مرضى القلوب ومن يعبد الله على حرف، وأصحاب البدع والأهواء، وعليه فإن إصرار بشير على موقفه بعيد عن الحكمة والصواب.
هذا، والحياء كما قال الراغب من خصائص الإنسان، ليرتدع عن ارتكاب ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركب من جبن وعفة، فلذلك لا يكون المستحي فاسقا، وقلما يكون الشجاع مستحيا.
والحياء الشرعي درجات، أعلاها أن يستحي المتقلب في نعم الله أن يستعين بها على معصيته، وأن يعبد الله كأنه يراه، ويحرص على أن لا يفقده ربه حيث أمره، وأن لا يراه حيث نهاه، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه "استحيوا من الله حق الحياء". قالوا: إنا نستحي والحمد لله، فقال: ليس ذلك، وإنما الاستحياء من الله تعالى حق الحياء