للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لهم، فأعلنوا مرارًا بألسنتهم أنهم بشر. وشاء الله أن تشهد حياتهم وتصرفاتهم بأنهم بشر، بشر يحبون ويكرهون يصومون ويفطرون، ويقومون وينامون، ويفكرون وينشغلون، وينسون ويذكرون.

ومن مثل صفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فيما كلف به؟ ومن حمله مثل حمل محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته. إنه رسول البشر عامة أبيضهم وأحمرهم، وغيره من إخوانه رسول قومه خاصة، إنه يحارب من هم أهله ووطنه، فيهاجر إلى وطن آخر يغرس فيه شجر الإيمان، ويرسل منه إلى الآفاق أشعة نور الإسلام، استخدم كل وسائل السلم بالحكمة والموعظة الحسنة، واضطر إلى استخدام السيف لحماية نفسه ودعوته وكانت حروبًا ضارية غير متكافئة العدد والعدة، ولكن النصر كان لمحمد وأصحابه من عند الله وبقوة الإيمان، وطئت قدمه صلى الله عليه وسلم أرض وطنه الثاني بدأ يبني أمته من الداخل، ويذب عنها سهام الأعداء من الخارج بنى مسجده مدرسة تعليمية لشريعة الله، وما إن بدأت الغزوات حتى كانت الواحدة تلو الأخرى، وكلما عاد من غزوة وري بغيرها، وما وضع سلاحه حتى لبسه، وقد تهون حروب السيف أمام حروب المنافقين ومكايدهم، حتى وصل بهم الكيد أن تناولوا عرضه صلى الله عليه وسلم في زوجته، حشود من الأفكار يشحن بها قلبه نتيجة لما نيط به من أمور جسام، وكلما عظمت عظمت معها مشاكله، ومشاغله، فهل نعجب إذا نسي صلى الله عليه وسلم في صلاته كم صلى؟ وهل نعجب إذا قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني"؟ إن هما واحدًا من المهام الكثيرة التي حملها صلى الله عليه وسلم لو حمل على أحد أمته لنسي نفسه معظم وقته، ولكنها الرسالة والاصطفاء والإعداد الإلهي مع البشرية والإنسانية.

لقد نسي، وقام صلى الله عليه وسلم في صلاة رباعية بعد ثنتين ولم يجلس للتشهد، فسبح القوم ليذكروه، وما كان له صلى الله عليه وسلم حسب وحي الله له أن يعود إلى الجلوس بعد ما تلبس بالوقوف، وما كان لأصحابه رضي الله عنهم إلا أن يتابعوه بعد ما نبهوه، فمضي في صلاته، فلما أتم الركعات الأربع وجلس وتشهد، وانتظر الناس سلامه، رأوه يسجد سجدتي السهو، فسجدوا معه، فسلم فسلموا مثله. ثم علمهم حكم الله بالقول بعد أن حكاه لهم بالفعل.

ومرة أخرى بعد أن رفع من السجدة الثانية من ركعة رابعة في صلاة رباعية وجده أصحابه، يقوم لركعة خامسة ولم يجلس للتشهد الأخير كما علمهم فسبحوا، فلم يلتفت إلى تنبيههم، فقاموا مثله، وتابعوه، حتى قضى صلاته وسلم، فسلموا. وتحول عن القبلة فاستقبلهم. وكانت الأحكام الشرعية تنزل من الله تباعًا، وظنوا أنه قد يكون الوضع المعلوم قد تغير، فسأل سائلهم: أحدث في الصلاة شيء يا رسول الله؟ قال: لا. فماذا لاحظتم من تغيير؟ قالوا: صليت خمسًا بدل أربع، فنظر صلى الله عليه وسلم في وجوه المصلين، فإذا هي تعبر عن تصديق السائل، وتذكر صلى الله عليه وسلم ما نسي، وتأكد من صدقهم، فانفتل عنهم، وتحول من استقبالهم إلى استقبال القبلة، وثني رجليه إلى جلسة السجود، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل على القوم بوجهه يعلمهم، يقول: لو حدث في الصلاة زيادة أو نقص لأخبرتكم به ولم أفجأكم، وإنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون. أصبتم بتنبيهي وأحسنتم،

<<  <  ج: ص:  >  >>