بالحمد له والثناء عليه بكافة أنواع الحمد والثناء، وطهارة الظاهر لمناجاة الرب يستلزمها بل يتأكد معها تطهير الباطن، ولهذا حرص صلى الله عليه وسلم على أن يعلم أمته هذه الطهارة المطلوبة، فسكت بين تكبيرة الإحرام وبين قراءة الفاتحة سكتة تقدر بلحظات، يحس من بجواره حركة فمه ولسانه، ولا يسمع صوتًا، نوع فريد من التعليم، يشعر المتعلمين الحريصين على الاقتداء بأنه يعمل، ولا يأمرهم بالعمل، حتى إذا سألوا عن العمل وأجيبوا فاقتدوا كانوا مختارين راغبين، والعمل برغبة وشوق وحب وطواعية أعظم أجرًا وقبولاً وإخلاصًا عند الله.
وكان ما أراد، سأله أبو هريرة. أفديك بأمي وأبي يا رسول الله، وأراك تسكت بين التكبيرة وبين القراءة سكتة أحس أنك فيها تقول ذكرًا، فماذا تقول في سكوتك؟ قال صلى الله عليه وسلم: أسأل الله أن يغفر لي ما قدمت، وأن يعصمني في مستقبل أيامي من الزلل، فأقول: اللهم باعد بيني وبين الخطايا والذنوب ولا تجمع بيني وبين الذنوب، بقدر ما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني ونظفني وطهرني من ذنوبي كما ينظف الثوب الأبيض من الوسخ فيعود أبيض صافيًا نقيًا، اللهم اغسلني من ذنوبي ونظفني منها كما ينظف الشيء بالماء مرة وبالثلج أخرى وبالبرد ثالثة. وتعلمها أبو هريرة وتعلمها الصحابة، وعملوا بها، وقالوها في صلاتهم.
بل كان بعضهم يزيد في الذكر والثناء على ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يرفع به صوته ليرى، أيقر على ما يفعل أو ينهى؟ فهذا أنس رضي الله عنه يروي أن رجلاً جاء فدخل الصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطرب نفسه واشتد، فعطس فقال:"الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة التفت إلى أصحابه فقال: أيكم الذي حمد الله بهذه الكلمات؟ وخاف المتكلم أن يقول: أنا. وظن أنه قد أخطأ، وخشي أن يساء إليه فيفضح ويعرفه من لم يعرفه ورجا أن يعفو الله ورسوله عنه دون افتضاح، وسكت الصحابة أدبًا ورحمة في انتظار أن يعلن عن نفسه، فلما لم يجيبوا أعاد صلى الله عليه وسلم السؤال: من منكم تكلم بهذه الكلمات؟ وسكت للمرة الثانية وسكتوا، وعلم صلى الله عليه وسلم أنهم ظنوا أن ما حصل خطأ، فقال للمرة الثالثة: من المتكلم بهذه الكلمات؟ إنه لم يأت خطأ، إنه محسن. فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قلتها ولا أريد بها إلا خيرًا قال صلى الله عليه وسلم: لقد فتحت لها أبواب السماء ورأيت الملائكة يتسابقون في كتابتها ورفعها. وسمع المصلون وتعلموا أن يقولوا مثله. صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
-[المباحث العربية]-
(كان إذا كبر) أي تكبيرة الإحرام.
(سكت هنية) بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء بغير همزة، وهي تصغير هنة، أصلها هنوة، صغرت على هنيوة، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، قال النووي: ومن همزها فقد أخطأ، ورواه بعضهم "هنيهة" وهو صحيح أيضًا. اهـ. أي بقلب الياء هاء، قال الحافظ ابن حجر: قال غير النووي: لا يمنع ذلك إجازة رواية الهمزة، فقد تقلب الياء همزة. اهـ والمراد بالهنية الزمن القصير. وفي رواية للبخاري "إسكاتة" أي يسيرة.