يميل دليل المحبة وشعارها، وصدق الله العظيم إذ يقول: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [آل عمران: ٣١].
فقيام المؤمن المحب لربه بالتكاليف الشاقة ليس للحب العقلي كشرب الدواء المر كما يرى البيضاوي، وإنما للتلذذ بأداء التكاليف وعدم الشعور بمشقتها، فهي حلوة عنده تهفو إليها نفسه، وتسعد بها مشاعره.
وإذا وصل المؤمن إلى هذه الحالة كمل إيمانه، وشعر بحلاوة الإيمان، وحصلت عنده الخصلتان الأخيرتان حصولا لازما تبعيا.
فإن حب المرء لله معناه حب من يحبه الله، لا لشيء إلا للصلة بالله، فكأنه من لوازم حب الله.
وهذا القصر في الحديث "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، يخرج ما كان الحب فيه مشتركا بين الله ونفع دنيوي، كمحبة الصالحين لأنهم صالحون وللانتفاع منهم بالمعاملات الدنيوية، فهذا الحب وإن كان حسنا وممدوحا شرعا لكنه لا يصل بصاحبه إلى المرتبة المطلوبة التي بها يجد حلاوة الإيمان وجودا كاملا.
وظاهر من هذا أن المراد بالمرء المحبوب المرء المسلم الصالح، فإن الفاسق والكافر ينبغي أن يبغضا في الله، مصداقا لقوله تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [المجادلة: ٢٢].
نعم. وإذا وصل المؤمن إلى أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كره الكفر والكافرين، ومقت الذين يمقتهم الله، وكانت نار الدنيا عنده أحب إليه من غضب ربه.
وفي هذا يقول البيضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان، لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسايط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينا، ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار. اهـ.
وظاهر كلام الإمام البيضاوي أن المراد من النار نار الآخرة، وتوجيهه أن المؤمن الذي أحب ربه، أيقن بكل ما وعد وأوعد، وصار عنده ما سيقع في قوة الواقع. فإن أطاع أحس أنه في الجنة، والعود في الكفر عنده إلقاء في النار، لأنها متوعد بها لمن كفر.
وهذا الاحتمال مع توجيهه بعيد عن ظاهر الحديث، فإن إن ساغ مع رواية "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" أي نار جهنم، فإن لا يسوغ مع رواية "ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر" إذ لا يقال: إلقاؤه في نار جهنم أحب إليه من العود في الكفر.