صفة وزاد أحدهما على الآخر في هذه الصفة، فإنه لا حب في الرجوع في الكفر، ولا حب في القذف في النار، وإنما قصد بهذا الأسلوب شناعة أمر عن أمر آخر، كما نقول: الرسوب خير من الغش، نقصد زيادة جريمة الغش وضررها على الرسوب، ولا خيرية في كل منهما.
(ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا) هذه هي الرواية الثالثة لمسلم، وهي تعطي معنى الرواية الثانية بالطريق الأولى، لأنه إذا كره الرجوع إلى اليهودية والنصرانية [وهما ديانتان سماويتان في الأصل] كره الرجوع إلى الأوثان والكفر الذي لا أساس له من باب أولى.
-[فقه الحديث]-
الحب الميل إلى الشيء، وهو نوعان: جبلي يغرسه الله في القلب بأسباب أو بدون أسباب، فيحس صاحبه ميلا لا سلطان له على دفعه، ولا قدرة له على اكتسابه، ولا على الحد منه، ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك".
النوع الثاني مكتسب بتناول أسبابه، وتوافر دواعيه، فحسن الصورة وجمال الصوت من أسباب الحب غالبا، وحسن المعاملة والصلاح والنفع ودفع الضر من دواعيه.
ثم هذا الحب المكتسب قد يكون ميلا إلى ما يستلذه الإنسان وتستطيبه النفس، وترتاح إليه الحواس، وقد يكون ميلا بالعقل والرشد إلى ما فيه الخير، وإن كان على خلاف هوى النفس كالوضوء بالماء البارد في شدة الشتاء، وكميل المريض للدواء، وهذا النوع قاله البيضاوي، وإن كان العرف يأباه ويقصر الحب على ما تميل إليه النفس استطيابا وتلذذا، ويجعل الآخر من باب الإرادة والعزيمة التي تقهر النفس إلى ما فيه صلاحها.
وإذا تدبرنا حب المؤمن لله تعالى نجد أنه ينشأ عن التفكير في فضله ونعمائه والاعتراف بهذه الآلاء التي لا تنقطع عن الإنسان طرفة عين، وينشأ عن هذا التفكير والاعتراف التقرب إليه جل شأنه بالفرائض والنوافل، وكلما تقرب قرب، لأنه إن تقرب من الله شبرا تقرب الله إليه ذراعا، وإن تقرب إليه ذراعا تقرب الله منه باعا، فإذا ما استغرق في هذا البحر كان الله سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وكان الله وأوامره وطاعته هي كل شيء في حياته، لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، ولكن يفعل ما يريد ربه حبا فيه جل شأنه.
وكذلك الحال بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصل حبه عند المؤمنين أن يكون أحب إليهم من والدهم وولدهم وأموالهم حتى من أنفسهم التي بين جنبيهم، اعترافا بفضله، وإيمانا بعظيم جهاده ونفعه، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربه.
وللحب علامات وآثار لا يوجد بدونهما، فطاعة المحبوب، والحرص على رضاه، والميل إلى ما إليه