العموم يجعل حبها في الدرجة الثانية بل الثالثة، يدل على قوة حبها ما رواه البخاري من "أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا. والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي".
-[فقه الحديث]-
قلنا في الحديث السابق: إن الحب نوعان: جبلي واختياري، وقلنا إن الشارع لا يكلف الإنسان ولا يطلب منه التحكم في الحب الجبلي، فالمقصود بالحب هنا الحب الاختياري، وقلنا إن للحب أسبابا تغرسه في النفس أو تعمقه فيها، كجمال المنظر وحسن الصوت والخلق أو النفع بوجه ما.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم - من حيث هذه الأسباب- أحق الناس بحب المؤمن، ولا شك أن حظ الصحابة من هذه الأسباب أوفى وأتم، وأما غيرهم فيكفي أن يفكروا في أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، وأن يتفكروا في أنه الذي بين لهم طريق البقاء الأبدي في النعيم المقيم، فيعلمون أن انتفاعهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، والنفع يثير المحبة، فينبغي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى المؤمن من ولده ووالده وماله والناس أجمعين، ونفي الإيمان عمن لا يكون الرسول أحب إليه إنما هو نفي للإيمان الكامل لا لمطلق الإيمان.
لكن ظاهر عبارة القاضي عياض تفيد أنه يرى أن أحبية الرسول صلى الله عليه وسلم شرط في صحة الإيمان، إذ قال رحمه الله: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته، ثم قال: وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومتفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن. اهـ.
ونحن نوافق القاضي عياض في أن إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإعظامه شرط في صحة الإيمان، وحقيقة الإيمان لا تتم إلا به، وأن من اعتقد خلاف ذلك فليس بمؤمن.
لكن هناك فرق بين الإعظام والمحبة، ولا تلازم بينهما، إذ قد يعترف الإنسان بالأعظمية، ويذل لها ولا يحبها.
والإيمان مبني على التصديق برسالته صلى الله عليه وسلم، والإسلام مبني على التسليم بما جاء به، والانصياع إليه، أما حبه صلى الله عليه وسلم فبه يزداد الإيمان، وببلوغ حبه أعلى درجات الحب يكمل الإيمان.
وعلامة حصول هذه الدرجة العليا أن يعرض المرء على نفسه، ويخيرها بين أن يملك المال