وتطورت هذه الظاهرة حتى أصبحت علامة على وفاء أهل الميت لميتهم ومظهراً من مظاهر معزتهم له، ورمزاً لقيمته عندهم، حتى قال طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي علي الثوب يا ابنة معبد
وجاء الإسلام وتلك عادة العرب، ووجدنا أم سلمة -رضي الله عنها وهي من السابقات إلى الإسلام المهاجرة مع زوجها إلى الحبشة مرتين ثم إلى المدينة- وجدناها حين مات زوجها من جراحة أصابته في غزوة أحد. وجدناها تقول: غريب وفي أرض غربة، ولأبكينه بكاء يتحدث به الركبان، وقامت وتهيأت للصراخ وللألوان، وأعدت العدة لاستقبال النادبات المساعدات، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فوعظها أن لا تفعل، وقال لها: ما من عبد تصيبه مصيبة فيصبر ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها. إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها، قال لها: قولي: اللهم اغفر لي وله، واعقبني منه عقبى حسنة. فاستسلمت وكفت عن البكاء والصراخ، واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم إحدى المساعدات النادبات فقال لها: إياك أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه، فلا ندبة ولا عويل.
وأخذ الإسلام ينشر نوره وتعاليمه المتمثلة في الرضا بالقضاء، والصبر عند البأساء، وفي الإيمان بأن كل شيء حتى نفوسنا ملك لله، لقد أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم إحدى بناته تخبره أن ابناً لها يموت وفي النزع الأخير، وتطلب حضوره إليها يواسيها ويخفف عنها وتحصل به البركة والرحمة، فأرسل إليها يقول: اعلمي أن لله ما أعطى، هو الذي وهبك هذا الولد فتمتعت به أياماً، كان عارية وأمانة لديك، فإن أخذه فهو حقه وله ما أخذ، وكل أجل عنده في كتاب، فاصبري واطلبي من الله أن يحسب صبرك عليه في صحيفتك. فأرسلت إليه تقسم عليه أن يأتيها، فأتاها ومعه بعض أصحابه، فرفع إليه الصبي، فأخذه بين يديه، فرأى صدره يعلو ويهبط، ونفسه تتحشرج في حلقومه، وأمه بجواره تكاد تموت حزناً وكمداً، فسقطت العبرات على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظن الصحابة الحاضرون أن الإسلام ينهي عن البكاء والدمع، فقال أحدهم: ما هذا يا رسول الله؟ تبكي؟ وتنهانا عن البكاء؟ قال: إنما نهيتكم عن هذا، وأمسك بلسانه، أما الدمع فهو أثر الإحساس والرحمة التي جعلها الله في قلوب عباده، والمسلم يرحم، ومن لا يرحم لا يرحم.
ووضع الإسلام قواعده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، زيارة للمريض ومواساة زيارة من كبير المسلمين لصغيرهم، وزيارة عامتهم لعامتهم ولسادتهم. لقد أخذ جمعاً من أصحابه لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، وكان أهله حوله فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسحوا له واستأخروا، ففاض دمعه نابعاً من تأثره وانفعاله ورحمته، ومرة أخرى شرح لأصحابه: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بما فوق هذا من فعل الجاهلية.
ورأى امرأة تصرخ وتولول عند قبر صبي لها فقال لها: اتقي الله واصبري فإن الصبر الكامل المستحق للجزاء الوفير هو ما كان على مصاب جلل حين يفاجئ المحبين.