وكان لا بد من محاربة عادات الجاهلية، وأبرزها ما كانوا يعتقدونه من أن المبالغة في ندبته والبكاء عليه، والمغالاة في مظاهر الحزن ينفعه ويعلي من قدره، فأراد الإسلام أن يغرس فيهم نقيض عقيدتهم، فقال: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فإن كنتم تحبونه فلا تعذبوه بصراخكم، "المعول عليه يعذب" فلا تعذبوا أحبابكم"، ومن نيح عليه فإنه يعذب بما نيح يوم القيامة".
وكان لا بد أن يحذر النائحات، فقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تبعث يوم القيامة وهي تلبس ثياباً من قطران تصيبها بالجرب.
احذروا معشر المسلمين أربعاً من خصال الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، وربط المطر بالنجوم، ونسيان الذي يرسل السحاب، والنياحة على الموت.
وهكذا حارب الإسلام الهلع والجزع عند الموت، حارب مظاهر عدم التسليم ومظاهر عدم الرضا بالقضاء.
غرس الإيمان في نفوس المؤمنين بأن لله ما أعطى، ولله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب، وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
-[المباحث العربية]-
(غريب وفي أرض غربة) أي فليس معه من الأهل من يبكيه غيري، لأنه من أهل مكة ومات في أوائل الهجرة بالمدينة، والمقصود بهذه الجملة تعليل بكائها الهائل الذي اعتزمته.
(لأبكينه بكاء يتحدث عنه) "يتحدث" بالبناء للمجهول، أي يتحدث الركبان وأهل البلاد عن عظمه.
(فكنت قد تهيأت للبكاء عليه) أي لبست لباس الباكيات وأعددت المناديل ومشقوق الثياب والخمار ونحو ذلك مما يستعمله الصائحات النادبات.
(إذ أقبلت امرأة من الصعيد) أصل الصعيد ما كان على وجه الأرض واستعمل في الأرض البعيدة، والمراد هنا عوالي المدينة.
(تريد أن تسعدني) بضم التاء وسكون السين، أي تساعدني في البكاء والنوح والندبة.
(فاستقبلها رسول الله) صلى الله عليه وسلم لعله كان بالداخل حين دخلت، ففي الرواية الخامسة من الباب السابق أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه.
(أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه)؟ الاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن تدخلي، ولعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك من الوحي، لأن أم سلمة لم تكن كفت عن البكاء ولا التهيؤ للنوح.