سلعاً -جبل قريب من المدينة- فارتحل إلى الشام". فلما بلغ البناء سلعاً في عهد عثمان ارتحل إلى الشام، فأقام بها فرأى ما عليه معاوية وأغنياء المسلمين من البذخ والإسراف في مظاهر الدنيا وبهجتها، وصورة فقراء المسلمين والمحتاجين في مخيلته، فاستقر عنده أن الإسلام لا يقبل هذا الوضع ولا يستسيغه، فدعا الأغنياء إلى بذل أموالهم مستدلاً بقوله تعالى:{والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}[التوبة: ٣٤، ٣٥]. وكان يقول للناس: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم. وانتشر خبره في دمشق وانزعج المسلمون لدعوته، فدعاه معاوية وناقشه، وقال له إن الآيات نزلت في أهل الكتاب، فصدرها يقول:{يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة .... } إلخ الآية: قال له أبو ذر: نزلت فينا وفيهم. وذكر له الأحاديث التي رواها الإمام مسلم -روايتنا السابعة وما بعدها- واشتد النقاش والجدل، وأبو ذر متمسك بقوله، فكتب معاوية إلى عثمان يقول: إن أبا ذر يفسد علينا، إن كان لك بالشام حاجة فابعث إليه. فكتب إليه عثمان: أن أقدم علي. فقدم، فدخل على عثمان، وهو يخشى أن يتهمه بأنه من الخوارج، فكشف أبو ذر رأسه، وقال: والله ما أنا منهم، سيماهم التحليق" يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت. قال له عثمان: إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة.
لكن أبا ذر وقف مع أهل المدينة الموقف نفسه الذي وقفه مع أهل الشام وكان منه ما كان، وما جاء في رواياتنا، حتى أصبح الناس يفرون من لقائه وحتى اشتكوا إلى عثمان من إيذائه لهم، فدعاه عثمان وقال له: اختر مكاناً تقيم فيه وتنح عن المدينة، فاختار الربذة، وهي قرية بين مكة والمدينة، وكان يذهب إليها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل أهلها كانوا فقراء فعاش بينهم أبو ذر دون شكوى بقية حياته، ومات بها، رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
٢٢ - ومن قوله "إلا دينار أرصده لدين" جواز الاستقراض.
٢٣ - وتقديم وفاء الدين على صدقة التطوع.
٢٤ - والحث على وفاء الديون وأداء الأمانات.
٢٥ - وفيه الحض على إنفاق المال في الحياة وفي الصحة، وترجيحه على إنفاقه عند الموت، وذلك أن كثيراً من الأغنياء يشح بإخراج ما عنده مادام في عافية، فيأمل البقاء، ويخشى الفقر، فمن خالف شيطانه وقهر نفسه إيثاراً لثواب الآخرة فاز، ومن بخل بذلك لم يأمن الجور في الوصية، وإن سلم لم يأمن تأخير تنجيز ما أوصى به أو تركه أو غير ذلك من الآفات، ولا سيما إن خلف وارثاً غير موفق، فيبذره في أسرع وقت، ويبقى وباله على الذي جمعه. ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح.