وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب". وفيه "من سأل الناس ليكثر به ماله كان خموشاً في وجهه يوم القيامة، ورضفا -أي حجارة محماة- يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر". وعند أحمد والبزار: "مسألة الغني شين في وجهه يوم القيامة". وأخرج أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف". فقلت: ناقتي خير من أوقية، فرجعت فلم أسأله. وأخرج أبو داود وابن حبان في صحيحه: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار". فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: "ما يغديه ويعشيه".
هذا وفي المباحث العربية للحديث رقم (٦٠) في الباب السابق ما يفيد في هذا المقام. فليراجع.
ويؤخذ من سؤال حكيم وإعطائه في الحديث رقم (٢):
١ - الحث على التعفف والقناعة والرضا بما تيسر في عفاف، وإن كان قليلاً.
٢ - والإجمال في الطلب والكسب.
٣ - وأن لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف نفس، فإنه لا يبارك له فيه، وهو قريب من قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: ٢٧٦].
٤ - وفي تشبيه المال بالفاكهة الخضراء إشارة إلى عدم بقائه، لأن الخضراوات لا تبقى، ولا تقصد للبقاء.
٥ - وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، وأن الإنسان لا يسأل إلا عند الحاجة، لأنه إذا كانت يده السفلى حتى عند الحاجة، فالأحرى أن يمتنع من ذلك عند عدم الحاجة. قال الحافظ ابن حجر: ومحله إذا لم تدع إليه الضرورة من خوف هلاك ونحوه، وقد روى الطبراني بإسناد فيه مقال: "ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجاً".
٦ - قال ابن أبي جمرة: قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها.
٧ - وأن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق.
٨ - وفي الحديث ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأمثلة؛ لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالآكل إنما يأكل ليشبع، فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه، وإنما هي فيما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر عند المرء بغير تحصيل منفعة كان وجوده كالعدم.
٩ - وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته، لتقع موعظته له الموقع السليم، ولئلا يتخيل أن عدم الرغبة في الإعطاء هو سبب الموعظة.