وقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه هم المقصودين بالحديث فموضوع آخر، وحتى مع آية المخدج فإن الحكم يعم كل من على شاكلتهم، ووجود المخدج ضمن طائفة ليس علامة على أنهم كذلك، فقد كان في جيش علي رضي الله عنه وحارب معه في الجمل وصفين. إنما العلامة قتله فيهم -كما هو واضح من الرواية السابعة والعشرين والثامنة والعشرين، وأساس الحكم عقيدتهم وأعمالهم.
وقد ضرب العلماء بسهم وافر في هذه المسألة، حتى قال القاضي عياض: كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالاً عند المتكلمين من غيرها، حتى توقف بعض الفضلاء فيها، واعتذر بعضهم بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها أمر عظيم في الدين واعتذر آخرون بأن هؤلاء القوم لم يصرحوا بالكفر، وإنما قالوا أقوالاً لا تؤدي إلى الكفر. وقال الغزالي في كتاب "التفرقة بين الإيمان والزندقة": والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إلى ذلك سبيلاً، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد. وقد استعرض الحافظ ابن حجر كثيراً من آراء العلماء المكفرين لهم وغير المكفرين، نوردها بتصرف:
أقوال غير المكفرين:
(أ) قال الحافظ ابن حجر: ذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجرى لهم، لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا لتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك.
(ب) وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام.
(ج) وقال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين، لقوله [في روايتنا الثامنة عشرة]: "فيتمارى في الفوقة، هل علق بها من الدم شيء". لأن التماري من الشك، وإذ وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين. قال: وقد سئل علي عن أهل النهر: هل كفروا؟ فقال: من الكفر فروا -قال الحافظ ابن حجر: وهذا إن ثبت عن علي حمل على أنه لم يكن اطلع على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كفرهم، ثم قال: وفي احتجاجه بقوله "يتمارى في الفوق" نظر، فإن في بعض الروايات [روايتنا العشرين]"وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة" وفي بعضها [روايتنا التاسعة عشرة]: سبق الفرث والدم". قال: وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أو لا؟ ثم تحقق أنه لم يعلق به بالسهم ولا بشيء منه من المرمي شيء، ويمكن أن يحمل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم، ويقول في قوله: "يتمارى" إشارة إلى بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء.