أما وصف قتال المسلم بالكفر فقد أوله أهل السنة بالتأويلات المتقدمة في الحديث الأسبق، وزادوا:
١ - أن المراد من "لا ترجعوا بعدي كفارا" أي لا تكفروا بل دوموا مسلمين، فهو نهي عن الردة، وهذا التأويل لا يصلح في لفظ "وقتاله كفر".
٢ - حكى الخطابي أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، فمعنى لا ترجعوا بعدي كفارا: لا تلبسوا السلاح لبعضكم بعضا بعدي، وهذا التأويل لا يصلح في لفظ "وقتاله كفر" إذ لا معنى لقولنا: قتال المسلم لبس للسلاح.
٣ - قال الخطابي: "لا ترجعوا بعدي كفارا" معناه لا يكفر بعضكم بعضا، فتستحلوا قتال بعضكم بعضا، وهذا التأويل أيضا لا يصلح للرواية الأولى.
قال الحافظ ابن حجر: وأقوى التأويلات في إطلاق الكفر على قتال المؤمن أنه أطلق عليه مبالغة في التحذير من ذلك، لينزجر السامع عن الإقدام عليه. اهـ.
وهذا الحديث يفرض علينا تساؤلا عن موقف الصحابة حين قاتل بعضهم بعضا في موقعة الجمل وصفين وغيرهما، هل كانوا يجهلون هذه الأحاديث ووعيدها؟ أو أقدموا وهم يعلمونها ويؤولونها؟ .
بسط القول في هذا التساؤل سيأتي إن شاء الله في كتاب الفتن، وخلاصته أن الصحابة كانوا - كما نعلم- ثلاث فرق: فرقة مع علي رضي الله عنه وفرقة مع خصومه، وفرقة توقفت وفرت من الفتنة ولم تدخل المعارك وإن لم تسلم من دخانها أو شررها.
أما الفرقتان الأولى والثانية فقد حملوا هذه الأحاديث على الذين يقاتلون من غير تأويل واجتهاد، وهم متأولون مجتهدون، فلا يدخلون في وعيدها.
وأما الفرقة الثالثة فقد أحست أن هذا النذير شامل لرفع السلاح على المؤمن أيا كان نوعه، ما دام بغير الثلاث الواردة: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة.
ومعهم أحاديث كثيرة في الفتن، منها ما رواه أحمد من حديث ابن مسعود في ذكر الفتنة. قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: كف يدك ولسانك وادخل دارك، قلت: يا رسول الله. أرأيت إن دخل رجل على داري؟ قال: فادخل بيتك. قال قلت: أفرأيت إن دخل على بيتي؟ قال: فادخل مسجدك -وقبض بيمينه على الكوع- وقل ربي الله حتى تموت على ذلك.
وفي رواية الطبراني "ليمسك بيده، وليكن عبد الله المقتول لا القاتل" والحقيقة أنه لو علم المتقاتلون هذا المصير الذي صار إليه أمرهم ما تقاتلوا سواء في ذلك منتصرهم ومهزومهم، فقد روي أن عليا رضي الله عنه سار بين القتلى بعد انتهاء معركة الجمل، فأخذ يضرب فخذيه بيديه، وهو يقول: ياليتني مت قبل هذا، وكنت نسيا منسيا.
فلنمسك عن إدانة هذا أو ذاك، وعن قولنا: لو كان كذا كان كذا وكذا، ولنقل: قدر الله وما شاء فعل.