عن تنزل الرحمة، وإزالة العلق عن مصاعد أعمال العباد، تارة ببذل التوفيق، وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزه أنفس الصوام من رجس الفواحش، والتخلص من البواعث عن المعاصي بقمع الشهوات.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات، وذلك سبب لدخول الجنة، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار. اهـ.
وقيل: إن ذلك إشارة إلى أن الطريق إلى الجنة في شهر رمضان سهل لأن الأعمال فيه مضاعفة الأجر، والعفو والرحمة فيه تظل العباد. وكل هذه المعاني متقاربة. والله أعلم.
(وصفدت الشياطين) بضم الصاد وتشديد الفاء المكسورة، أي شدت بالأصفاد، وهي الأغلال، وهي بمعنى "سلسلت" في الرواية الثانية، أي شدت بالسلاسل.
قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقي السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في رمضان، لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع. فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ. وقال بعضهم: المراد بالشياطين بعضهم، وهم المردة منهم، فقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم:"صفدت الشياطين ومردة الجن". وفي رواية:"وتغل فيه مردة الشياطين".
وهذا على القول بحقيقة التعبير، وأن هناك تصفيداً فعلياً لشياطين حقيقيين.
وفائدة هذا التصفيد قيل: منعهم من أذى المسلمين، وإضعاف إغوائهم على المعاصي. وقيل: رفع عذر المكلف، كأنه يقال له: قد كففت الشياطين عنك، فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا في فعل المعصية. ويمكن جعل القول الأول فائدة التصفيد، والقول الثاني فائدة إخبار الصادق صلى الله عليه وسلم بالتصفيد.
قال القرطبي: فإن قيل: كيف ونحن نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً؟ فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين للصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين، وهم المردة، لا كلهم كما جاء في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس، فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيدهم جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية، لأن لذلك أسباباً غير الشياطين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية.
أما القول بأن التعبير مراد به الكناية فقيل: إن اشتغال المسلمين بالصوم فيه كف وقمع للشهوات، واشتغالهم بالمحافظة على آداب الصوم من ترك قول الزور والعمل به، واشتغالهم بالذكر وقراءة القرآن بالإضافة إلى تغمد المسلمين بفضل الله ورحمته وعفوه، كل ذلك يجعل الشياطين كأنهم عاجزون مكتوفو اليدين. فتصفيد الشياطين كناية عن عجزهم عن تحقيق أهدافهم من غواية الصائمين وإيقاعهم في الشرور والمعاصي.