لأن الأمن في حقه أقوى من الأمن في حق غيره. أما من علم من تجاربه وسوابقه أنها تحرك شهوته فهي حرام في حقه، لأنها -والحالة هذه- تؤدي إلى الإنزال المفسد للصوم، وإفساد الصوم حرام، فما أدى إليه حرام. وعند بعض الشافعية أنها مكروهة في هذه الحالة، لأن تأديتها للإنزال محتملة ظنية، فلا تأخذ حكم الإنزال.
وهذا القول أضبط الأقوال في المسألة، ويجتمع عنده ظواهر الأحاديث الواردة.
فقد ورد في بعض الروايات أن عروة قال بعد أن سمع الحديث: إني لم أر القبلة تدعو إلى خير، وكذلك رويت هذه الزيادة عن ابن هشام، فأقل ما يؤخذ منها أنها خلاف الأولى.
وروايات عائشة -رضي الله عنها- تفيد أن صنع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا ليس مؤشراً للإباحة، فإن استدراكها بقولها:"كان أملككم لإربه""وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه"؟ دليل على عدم الإباحة. وأوضح من ذلك رواية النسائي "قال الأسود: قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا. قلت: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم قالت: إنه كان أملككم لإربه" وليس مرادها بهذا تحريم المباشرة، فعن حكيم بن عقال قال:"سألت عائشة: ما يحرم علي من امرأتي وأنا صائم قالت: فرجها" قال الحافظ: إسناده إلى حكيم صحيح، ويؤدي معناه ما رواه عبد الرزاق عن مسروق "سألت عائشة: ما يحل للرجل من امرأته صائماً؟ قالت كل شيء إلا الجماع". قال الحافظ ابن حجر: فيحمل النهي هنا [قولها للأسود: لا] على كراهة التنزيه، فإنها لا تنافي الإباحة، وقد روي عن حماد: سألت عائشة عن المباشرة للصائم؟ فكرهتها".
القول الثاني: نقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمها مطلقاً: واحتجوا بقوله تعالى: {فالآن باشروهن} الآية، فمنع المباشرة في هذه الآية نهاراً. قال الحافظ: والجواب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهاراً، فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، لا ما دونه من قبلة ونحوها، وممن أفتى بإفطار من قبل وهو صائم عبد الله بن شبرمة، أحد فقهاء الكوفة، ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمهم. اهـ وقال النووي: حكى الخطابي وغيره عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب أن من قبل قضى يوماً مكان يوم القبلة. اهـ ولعل القائلين بهذا يرون في أحاديث الباب أنها خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم.
القول الثالث: أن القبلة للصائم مباحة مطلقاً. قال الحافظ: وهو المنقول صحيحاً عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة. اهـ وقال النووي: قال القاضي: وقد قال بإباحتها مطلقاً للصائم جماعة من الصحابة والتابعين وأحمد وإسحق وداود. اهـ.
قال الحافظ: بل بالغ بعض أهل الظاهر فاستحبها. اهـ.
القول الرابع: أنها مكروهة مطلقاً، وهو مشهور عند المالكية.
القول الخامس: أنها مكروهة للشاب دون الشيخ الكبير، وهي رواية عن مالك. قال الحافظ ابن حجر: وهو مشهور عن ابن عباس، أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما، وجاء فيه حديثان