ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شمر عن ساعد الاجتهاد في العبادة، وقام الليل، ودعا نساءه لذلك، واستحب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، ينقطع المريد فيها في المسجد ولا يخرج منه إلا لقضاء الحاجة، أو تحصيل الأمر الضروري من مأكل ومشرب ونحوهما، ثم يعود فور انتهاء مطلبه، ليشتغل بذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، ولا بأس أن يتخذ لنفسه مكاناً في آخر المسجد إذا لم يضيق على الناس أو يؤذيهم.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، يضرب خباء، يصلي، ثم يدخله، ليختلي بنفسه، ويتفرغ لمناجاة ربه.
ورغبة في تقرب عائشة -رضي الله عنها- لرسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنته أن تعتكف مثله وبجواره، فأذن لها، فأقامت خباء لها بجوار خبائه، ووسطتها صديقتها حفصة لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن لها في إقامة خباء لها، فاستجاب، ورأت زينب بنت جحش خباءين بجوار خباء الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة وحفصة، فأقامت لها خباء ولم تستأذن، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وأراد العودة إلى خبائه رأى أربعة أخبية، فغضب، وقال: لم يعد البر والطاعة هدفاً. انزعوا هذه الأخبية، وأمر بخبائه فنزع، ولم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ذاك العام، واعتكف بدلاً منها في عامها العشر الأول من شوال، ثم عاد بعد ذاك العام إلى الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، واعتكف أصحابه من بعده، واعتكف أزواجه من بعده صلى الله عليه وسلم ورضي عن أصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين.
-[المباحث العربية]-
(كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان) الاعتكاف في اللغة الحبس والمكث واللزوم، يقال "عكف على كذا يعكف ويعكف بضم الكاف وكسرها. أي أقام عليه والتزمه وحبس نفسه عليه، سواء أكان طاعة أو معصية ومنه قوله تعالى:{فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم}[الأعراف: ١٣٨]. وفي الشرع المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة، ويسمى جواراً "كما سبق في أحاديث ليلة القدر، والتعبير بلفظ "كان يعتكف" يدل على التكرار والشأن والعادة، أخذاً من الجمع بين الفعل الماضي والمضارع "كان يعتكف" والمقصود ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في آخر أحواله، فقد مر أنه اعتكف في العشر الأول" ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم استقر على اعتكاف العشر الأواخر من رمضان.
(وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد) القائل "وقد أراني" نافع، والمعروف أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان شديد الحرص على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لدرجة أنه كان يتحرى المكان الذي أناخ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته في سفره لينيخ ناقته فيه، وهذا سر إعلام نافع بمكان اعتكافه صلى الله عليه