والجار إنما يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته، وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية القبح.
قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن كلا من الثلاثة (أن تجعل لله ندا .. وأن تقتل ولدك ... وأن تزاني حليلة جارك) على ترتيبها في العظم، ولو جاز أن يكون فيما لم يذكره شيء يتصف بكونه أعظم منها لما طابق الجواب السؤال. نعم يجوز أن يكون فيما لم يذكر شيء يساوي ما ذكر، فيكون التقدير: في المرتبة الثانية بعد الإشراك قتل الابن وما يكون في الفحش مثله، وفي المرتبة الثالثة الزنا بحليلة الجار وما يكون في الفحش مثله أو نحوه، لكن يستلزم أن لا يكون فيما لم يذكر في المرتبة الأولى أو الثانية شيء هو أعظم مما ذكر في المرتبة الثالثة، ولا محذور في ذلك. انتهى بتصرف.
ويؤخذ مما قال: أن هناك ذنوبا أعظم من المرتبة الثالثة ولم تذكر هذه الذنوب، ولو أنها ذكرت لسبقت الزنا بحليلة الجار، فكأن الترتيب هكذا بين هذه الثلاثة إن اقتصر عليها، وقد سبق أن قلنا: إن الإشراك أعظم الذنوب على الإطلاق وإن قتل الولد يليه ثم يختلف عظم الذنوب بعد ذلك باختلاف الملابسات والأضرار المترتبة عليها.
والآية التي نزلت تصديقا لترتيب هذه الذنوب تعرضت للتوبة وأنها ترفع الآثام، إذ تقول:{ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}[الفرقان: ٦٨ - ٧٠].
وإذا تركنا جانبا رأي الخوارج الذين يكفرون صاحب المعصية، ورأي المعتزلة الذين يخرجونه من الإيمان ويحكمون بخلوده في النار، إذا تركنا جانبا هذين الرأيين وجدنا أهل السنة على أن كلا من القاتل والزاني تقبل توبته، ونقل عن ابن عباس القول بعدم قبول توبة القاتل المتعمد، إذ روى أحمد، والطبري، وابن ماجه عن سالم بن أبي الجعد قال: كنت عند ابن عباس بعد ما كف بصره، فأتاه رجل فقال: ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا قال: "جزاؤه جهنم خالدا فيها". وساق الآية إلى "عظيما" قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له التوبة والهدى؟
ويؤيد هذا الرأي ما أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، والرجل يقتل مؤمنا متعمدا". قال الحافظ ابن حجر: وقد حمل جمهور السلف وجميع أهل السنة ما ورد من ذلك على التغليظ وصححوا توبة القاتل كغيره، وقالوا: معنى قوله: "فجزاؤه جهنم" أي إن شاء الله أن يجازيه، تمسكا بقوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}[النساء: ٤٨] ثم قال: ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، ثم أتى تمام المائة فقال له: لا توبة لك، فقتله فأكمل به مائة، ثم جاء آخر فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ الحديث. وهو مشهور. وإذا ثبت ذلك لمن قبلنا فمثله لهذه الأمة أولى، لما خفف الله عنهم من الأثقال التي كانت على من قبلهم.