واندرست آثاره، فبوأ الله لإبراهيم مكان البيت، فبناه على الأسس التي بوأها الله له، ولم يكن لها سقف، ولما احترقت بسبب أن قرشية كانت تبخرها، فاتصلت النار بأستارها فأحرقتها، وأصبحت حجارتها هشة ضعيفة وتساقطت قامت قريش ببنائها، واشترك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في بنائها هذا وهو ابن خمس وثلاثين وقيل خمس وعشرين، وكان صاحب الفضل في حسم النزاع فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه من بنائها.
بنت قريش الكعبة على قواعد إبراهيم من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فقد نقصتها نحو ستة أذرع، اختصاراً للنفقة، وأحاطت الجزء المتروك منها بحائط قصير نصف دائري، عرف بحجر إسماعيل عليه السلام. ورفعت حوائطها في السماء ثماني عشرة ذراعاً وأقامت في داخلها ستة أعمدة في صفين، حملت سقفها مع حوائطها وقامت بكسوة هذا البناء تقديساً له، ونصبت بداخله أصناماً، وصورت عليه من الداخل صوراً، ولم يجعل لهذا البناء سوى باب واحد، رفعت قاعدته عن الأرض، لا يصعد إليه إلا بسلم، وكان لها في بناء إبراهيم عليه السلام بابان، باب شرقي وباب غربي، ملتصقين بالأرض، ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل الكعبة بعد أن أمر بتحطيم الأصنام من داخلها ومن حولها، وطمس ومحا الصور التي على حوائطها وأعمدتها، ثم أغلقها وأعاد مفتاحها إلى سدنتها. وكان صلى الله عليه وسلم، يتمنى أن لو هدم الكعبة وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الأذرع الخمس أو الست التي اختصرتها قريش، وأعاد إليها الباب الآخر الذي لم تفتحه قريش وألزق البابين بالأرض، لكنه خشي على ضعاف الإيمان أن يفتنوا وهم قريبو عهد بكفر يقدسون الكعبة، ولا يرضون أحداً أن يمسها بسوء، فقال لعائشة: إن قومك قصرت بهم النفقة، فنقصوا من بناء الكعبة خمسة أو ستة أذرع في حجر إسماعيل فهلمي لأريك مكان الأساس الأصلي الذي تركوه، وأراها، ثم قال لها: لولا أني لا أملك ما يكفي لبنائها من جديد، ولولا خوفي من فتنة من هم قريبو عهد بكفر لهدمتها وبنيتها على قواعد إبراهيم، فإن عشت وأراد قومك أن يبنوها من جديد فها هي قواعد إبراهيم وبلغت عائشة هذه الوصية، وسمعها ابن أختها عبد الله بن الزبير، فلما بويع خليفة من أهل الحجاز، وفاض المال في يده قام بتنفيذ هذه الوصية بعد سنة خمس وستين من الهجرة، وكانت عائشة رضي الله عنها قد ماتت منذ زمن.
هدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها من الحجر ستة أذرع، وجعل لها بابين ملتصقين بالأرض، فأحس بالرغبة في رفع بنائها عما كانت عليه، فزاد ارتفاعها عشرة أذرع، فلما قتل ابن الزبير على يد الحجاج وعصابته كتب إلى عبد الملك بن مروان بأن الكعبة أصيبت بالمنجنيق وتحتاج إعادة البناء، فأمره عبد الملك أن يهدمها وأن يعيد بناءها على ما كانت عليه قبل بناء ابن الزبير، على أن يجعل ارتفاعها في السماء مثل ما كان في بناء ابن الزبير، فبناها كذلك، ومازالت على هذا البناء حتى اليوم وصانها الله وجعلنا من مستقبليها ومقدسيها وزائريها، وزادها تكريماً وتشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً، وزاد من زارها بحج أو عمرة تكريماً وتشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً. إنه سميع مجيب.