أما عن النقطة الأولى فيقول النووي: هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم القتال بمكة. قال الماوردي صاحب الحاوي من أصحابنا في كتاب الأحكام السلطانية: من خصائص الحرم ألا يحارب أهله، فإن بغوا على أهل العدل فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يمكن إلا بالقتال فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم، ويضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام أهل العدل، وقال جمهور الفقهاء يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال، لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى، التي لا يجوز إضاعتها، فحفظها أولى في الحرم من إضاعتها. قال النووي هذا كلام الماوردي، وهذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء هو الصواب، وقد نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الإمام، ونص عليه الشافعي أيضاً في آخر كتابه المسمى بسير الواقدي من كتب الأم. وقال القفال المروزي من أصحابنا، في كتابه شرح التلخيص في أول كتاب النكاح، في ذكر الخصائص لا يجوز القتال بمكة، حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها. قال النووي وهذا الذي قاله القفال غلط، نبهت عليه حتى لا يغتر به، وأما الجواب عن الأحاديث المذكورة هنا فهو ما أجاب به الشافعي في كتابه سير الواقدي أن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم، كالمنجنيق وغيره، إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصن الكفار في بلد آخر، فإنه يجوز قتالهم على أي وجه، وبكل شيء. اهـ
أقول هذا هو المنقول عن الفقهاء، والأحاديث مع بعض الفقهاء، لا مع جمهورهم، لأن الذي أبيح للرسول صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار لا يباح لغيره من بعده، كما هو صريح الأحاديث التي لا تحتمل التأويل، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأراد أن يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له إن الله قد أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم. فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس إلا السيف والرمح والسهم فليمنع السيف، وإذا منع السيف منع القتال بما هو أشد منه من باب أولى يؤكد هذا المعنى قوله "فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً" وعموم قوله "وإنه لم يحل القتال فيه لأحد من قبلي وإنها لن تحل لأحد بعدي" وجواب الشافعي وغيره عن الأحاديث محل نظر. والله أعلم.
وسواء في ذلك من قال إن مكة فتحت عنوة وهو مذهب أبي حنيفة والأكثرين ومن قال إنها فتحت صلحا وهو مذهب الشافعي، لأن ما فعله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من قتل وقتال لا يباح لغيره، وما كان مباحاً له، مأذوناً فيه، ولم يفعله، ولو احتاج إليه لفعله صلى الله عليه وسلم على تأويل الشافعية هو أيضاً لا يباح لغيره، فالقتال في الحرم بأي صورة لا يباح، ووسيلة الحصار المحكم كافية في كل عصر ومع أية قوة لإرغام من تحصن به وإن طال الزمن. والله أعلم.
أما عن النقطة الثانية فيقول النووي اتفق العلماء على تحريم قطع أشجار الحرم التي لا يستنبتها الآدميون، واختلفوا في ضمان الشجر إذا قطعه، فقال مالك يأثم، ولا فدية عليه، وقال الشافعي وأبو حنيفة عليه الفدية، واختلفا فيها، فقال الشافعي في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، وكذا جاء عن ابن عباس وابن الزبير، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة الواجب في الجميع القيمة قال الشافعي وتضمن الخلا بالقيمة، ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم في كلأ الحرم، وقال أبو حنيفة وأحمد ومحمد لا يجوز.