(ج) وأن موضوع السكنى في حديث فاطمة كان له ظروف خاصة جعلها تخرج من بيتها، وتعتد خارج مسكنها، من هذه الظروف أنها هي التي طلبت الانتقال، وكأنها تنازلت عن هذا الحق بعد ثبوته، ففي الرواية السابعة "فاستأذنته في الانتقال؟ فأذن لها، فقالت: أين يا رسول الله؟ قال .... إلخ" وفي الرواية التاسعة "فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي" أي هي التي استأذنت في الخروج، وفي الرواية الحادية عشرة "فأردت النقلة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: انتقلي ... إلخ" ومن هذه الظروف أن بيت الزوجية كان في مكان موحش، تخشى على نفسها فيه، فطلبت النقلة منه. ففي الرواية الثامنة عشرة "وأخاف أن يقتحم علي؟ قال: فأمرها فتحولت".
ومن هذه الظروف أنها كانت امرأة خشنة لسنة بذيئة بذاءة تبيح لوكيل زوجها أن يخرجها من مسكنها، تشير إلى هذا عائشة في روايتنا السابعة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين، إذ تقول "ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث" أي لأن الشخص لا ينبغي له أن يذكر شيئًا عليه فيه غضاضة، وروي عن عائشة أنها قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله، فإنك تعلمين لم أخرجت؟ وفي كتاب أبي داود قال سعيد بن المسيب عن فاطمة بنت قيس: تلك امرأة فتنت الناس، واستطالت على أحمائها بلسانها، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تنتقل. ودافع الشوكاني في نيل الأوطار عنها، ونفى فحش لسانها حيث ارتضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبه وابن حبه أسامة بن زيد، وحقق بعض العلماء القضية، فقال: البذاء المنسوب لفاطمة لم يكن موجهًا لزوجها، بل كان موجهًا لأحمائها، وهذا أمر غير مستبعد من أي امرأة مطلقة، تحس بشخصيتها، لا سيما إذا كان البذاء مجرد المخاشنة في القول، والاستعلاء على نساء الأحماء، والحدة في اللهجة والصوت.
وكأن فاطمة - بعد بيان هذه الظروف - تحكي قرار عدم إسكانها، وأنه حكم لها بعدم السكن، أي في النهاية، وربما فهمته حكمًا عامًا لكل النساء، ولم تفهمه خاصًا بها لظروفها. ويمكن حمل جميع الروايات على هذا بدون تعسف، فأولى المذاهب بالاختيار مذهب الشافعية والجمهور.
-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]-
١ - يؤخذ من قوله في الرواية الأولى "طلقها البتة وهو غائب" أن الطلاق يقع في غيبة المرأة.
٢ - ومن قوله "أرسل إليها وكيله" جواز الوكالة في أداء الحقوق. قال النووي: وقد أجمع العلماء على هذين الحكمين.
٣ - ومن قوله "تلك امرأة يغشاها أصحابي" جواز زيارة الرجال للنساء الأجانب ما لم تكن فتنة ولا خلوة.
٤ - وكثرة التردد على الصالحين.
٥ - ومن رجوعه صلى الله عليه وسلم عن أن تعتد في بيت أم شريك حرصه صلى الله عليه وسلم على رفع الحرج عن الأمة وفي كل تشريع، إذ رأى صلى الله عليه وسلم أن على فاطمة من الاعتداد عندها حرجًا، من حيث إنه يلزمها التحفظ من نظرهم إليها، ونظرها إليهم وانكشاف شيء منها، وفي التحفظ من هذا مع كثرة دخولهم وترددهم مشقة ظاهرة.